الوعي بالواقع.. الأهمية والشروط 1/2

12/07/2011| إسلام ويب

الوعي بالواقع أو ما يمكن أن نطلق عليه: «فقه الواقع» علم أصيل، تُبْنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تُتْخَذ المواقف المصيرية. فقه الواقع: هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة: من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجَّهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيِّها في الحاضر والمستقبل.

العوامل الداعية إلى الاهتمام بفقه الواقع:
1 - دلالة كتاب الله والسنة وفعل السلف: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥]، ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم؛ لهذا جاءت آيات كثيرة مفصِّلة ومبيِّنة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم.
 
- دلالة السُّنة: لقد حفلت السُّنة بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجانب؛ فها نحن نجده - صلى الله عليه وسلم - يوجِّه المستضعفين من صحابته إلى الهجرة إلى الحبشة. وفي ذلك برهان ساطع على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بما يدور حوله، وبأحوال الأمم المعـــــــاصرة له؛ فلماذا لم يرسل الصحــــــــابةَ إلـــــــى فارس أو الــــــروم أو غيرهما؟ ولماذا اختــــــــار الحبشة؟ يبيِّن ذلــــــك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن بها ملكاً لا يُظلم الناسُ عنده»[زاد المعاد]. وفـي الســـيرة النبـوية أمثلـة كثيـرة تبيِّن اهتمـام النبـي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع المحيط به.

وأما عن اهتمام الصحابة الكــرام به، فيقــول عمر ابن الخطــاب - رضي الله عنــــه -: «لست بالخِــب ولا الخبُّ يخدعني»؛ أي: لست بالماكر المخادع (وحاشاه عن ذلك) ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ. ويقول عبد الله بن مسعود: «رحم الله امرأًً عرف زمانه فاستقامت طريقته». ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولِمَ لا؛ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء؟ وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله)[فقه الواقع لناصر العمر].

2 - أنه سبيل إلى تكوين فقهاء التمكين: ذلك أننا في هذه الأيام التي لا نزال نتلمس فـيـهـا طـريق النهضة وطريق التغيير، في أشد الحاجة إلى (فقهاء) بالمعنى العام لكلمة (فقه) وهـو: الفهم العميق للإسلام، كما يُفهَم من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: «اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل»[الطبراني].

إننا بحاجة إلى فقهاء علماء يعرفون سنن التغـيـيـر وأمـراضـنـــا الاجتماعية وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة، وما هي الخطوات المرحلية التي يجب أن نبدأ بها؟

إن مشكلة (المسلم) لا تُحَل إلا بتحديدها تحديداً دقيقاً، والتفكير فيها، وهذا لا يؤتاه إلا (أولو الألباب) وعندمـــا ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين يغلبون مائتين من الذين كفروا قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: ٣١]؛ ولذلك قال عبد الله بن مسعود يـصـف بـعـض المظاهر في آخر الزمان : (يكثر الخطباء ويقل الفقهاء).

ولتكوين «أولي الألباب» نحتاج إلى علم ووعي بالواقع؛ ذلك أن علوم فقه الواقع اليوم أشبه بالحواس والنوافذ العقلية للفئة التي تسعى للتمكين لدين الله، عز وجل. والفئة التي تفتقد المعرفة بفقه الواقع في عالم اليوم فئة تعيش في ما يشبه مدارس الصم والبكم. ومن هنا نقول: إن النفرة للتخصص في شُعَب المعرفة، وإحياء الفروض الكفائية، والنزول إلى الميدان والانخراط بالمجتمع هو من فقه الدين. قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ٢٢١].
لذلك نقول: إن الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والتعرف على مكوناته ومؤثراته، ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها على هدى وبصيرة، وعدم تشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بدل الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، هو سبيل الخروج ومعاودة إخراج الأمة من جديد. وكل ذلك لا يتأتَّى إلا بعلمِ وفقهِ الواقع.

لقد أصبح «الوعي بالواقع»، أو «فقه المجتمع»، علماً له أدواته ووسائل قياسه، بل نستطيع أن نقول: إنه أصبح خلاصة لمجموعة علوم إنسانية واجتماعية وتاريخية، ولم تعد تنفع معه النظرة العابرة، أو الملاحظة الآنية، أو الأُمنية المخلصة.
وقد لا نكون بحاجة إلى إثبات أن علوم فقه الواقع تتقدَّم بسرعة، وتتأصل بشكل مذهل، وتتشعب إلى شُعَب تخصصية دقيقة، في محاولة لتغطية جميع مساحات الحياة؛ ففي علم الاجتماع والمجتمع بات هناك علوم اجتماع متنوعة بحسب موضوعاتها في الميادين السياسية والاقتصادية... وعلوم الإنســان بلغـــت شـأواً، وبــدأت تضــع يـدها على حقائق لا يمكـن تجــاهـلها ولا تجاوزها.. وعلم النفس يتقدم ليدخل المواقع كلها، ويحتل مكانه، ويدلي بشهادته على كل حالة، ولعلنا نقول: إنه تجاوز إمكانية قراءة الحاضر إلى محاولة صناعة المستقبل، وتحضير الناس له برفع اهتماماتهم وتشكيل أهدافهم. حتى إنه يمكن القول: إن وسائل وأدوات سبر حقيقة المجتمع، وكشف خفاياه، ومعرفة واقعه، وتحديد وجهاته، أصبحت علوماً. فعلم الإحصاء وحصر الإمكانات والاستطلاعات والمسح والبحث الاجتماعي بوسائل منهجية للتقويم والقياس لم يعد أرقاماً جامدة، وإنما يعبِّر عن مؤشرات ويحمل دلالات لا يمكن تجاهلها عند أي دراسة أو تخطيط أو تجديد أو تنمية للموارد البشرية والمادية... فلـم يعـد علم الإحصـاء أداة ووسيلة، وإنمـا أصبح مقوِّماً لا يمكن تجاوزه. حتى إن استطلاع الرأي والتعرف على التحولات الاجتماعية وأسبابها، أصبح علماً وفناً لا يقتصر على قراءة الحاضر وإنما يتجاوز إلى التأثير فيه وتوجيهه. وليست الاستبيانات وفنية وضعها وما يطرح فيها من أسئلة، وما يُتوصَّل إليه من نتائج، بأقل شأناً في فقه الواقع وامتلاك مفاتحه، والدخول إليه من أبوابه، بعيداً عن المجازفات والخبط الأعشى.

وفي دول الغرب الآن نجد أن السر في قوَّتها، هو: (تـكـامـل الفكر والسياسة، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدِّمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات خـلال الـلـقــاءات الــدوريــــة التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية؛ ففي بلد كالولايات المتحدة هناك حوالي تسعة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية).

3 - الوعي بالواقع وفتح الملفات: تتبنَّى حركة الإحياء الإسلامي التي تسعى للتمكين لدين الله في الأرض سياسة فتح الملفات. وسياسة فتح الملفات في الواقع، هي أننا نقوم بفتح ملفات للموضوعات الهامة والشائكة التي تواجه الأمة وتواجه الفئة المسلمة، ونترك هذه الملفات مفتوحة لاستيعاب المستجدات الطارئة والمتغيرات الحادثة في مثل هذه العقبات والتحديات، والهدف من فتح الملفات، هو «حل المغاليق المختلفة التي تواجه العمل الإسلامي واكتساب الخبرة اللازمة للعمل الإسلامي للتعاطي وَفْق المتغيرات المختلفة»؛ حتى يستطيع العمل الإسلامي مواكبة المتغيرات، وبإذن الله يكون هو البادئ بصناعة الحدث لا أن يكــون المستقــبل له، وحتــى لا يفاجأ العمل الإسلامي بمشاكل لم تكن في الحسبان عند الوصول إلى التمكين، بإذن الله.

والملفات التي ينبغي أن تفتح كثيرة ومتجددة حسب حاجة العمل الإسلامي؛ فهي ليست ملفات ورقية؛ ولذلك فإن سياسة فتح الملفات ينبغي أن تكون سياسة عملية وليست نظرية؛ وإن كان الدور النظري له بُعْد ليس بالهين، ولكن البُعد الواقعي في فتح الملفات يضفي على فتحها مصداقية ويساعد في إيجاد الحلول الصحيحة بعيداً عن التنظير الأجوف، وعلى سبيل المثال؛ فإنه ينبغي عند فتح ملف (النصارى) في البلدان التي تعلو فيها وتيرة الصراع مع النصارى والصراع الطائفي، مثل: مصر والسودان ولبنان... وغيرها من الدول أن نكون متابعين لآراء وشبهات النصارى من خلال مواقعهم الإلكترونية، ومن خلال غرف البالتوك المختلفة والتعرف على شبهاتهم التي يثيرونها بين الفينة والأخرى، والتعرف على مؤسساتهم وحضورهم في الأحزاب وتسليحهم ودرجة استفزازهم للمسلمين.

ومثل ذلك الخطاب العَلماني والتطور الحادث فيه ونوعه: إن كان خطاباً واضحاً غير ملتبس أو خطاباً ملتبساً مموَّهاً غير واضح، وذلك حتى لا تنخدع الفئة المسلمة وهي لا تدري أو يُسرَق كفاحها، نتيجة غفلة أهل الحق عن تدبير أهل الباطل وسوئهم. وما دام أن مثل هذه الأبحاث لم تُطبَع فلا فائدة من الإحالة عليها، وقس على ذلك باقي الملفات التي ينبغي أن تُفتَح، ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على التعامل مع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفـتــــح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قَدْرٍ أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير للإمكانيات... ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دمـــــاً جـديـــداً فـي قوة الباطل أو أن يوظَّف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني: النزول إلى الساحة، وفَهْم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم؛ ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد خيري (البيان272)

www.islamweb.net