الإعلام.. الحائر بين الخبر والرأي!!

20/11/2011| إسلام ويب

من أهم المشكلات التي يعانيها الإعلام المصري بمختلف وسائله - خاصة بعد الثورة وأجواء الحرية التي استغلها البعض- هى الخلط الشديد بين الخبر والرأي، مرة بصياغة الخبر كأنه رأى، ومرة بتقديم الرأي كأنه خبر! بحيث لم يعد يعرف المشاهد أو القارئ: هل الذي أمامه هو تعبير عن حدث وقع، أم عن رأى مطروح؟!

ومن المعروف أن الإعلام يتكون من خبر ورأى؛ الخبر يبحث في ماذا حدث وكيف.. إلى غير ذلك من علامات الاستفهام التي تحاول تسليط الأضواء على الحقيقة. أما الرأي فهو يعتمد تصورًا واحدًا عن الحدث؛ ولذا يختلف الناس في آرائهم لأن كل واحد يرى الحدث ويفسره من زاويته هو وما يتوافر لديه من معلومات.

وهذا الخلط الحاصل بين الخبر والرأي له نتائج كارثية؛ لأنه يؤدى إلى: أولاً: تشويه الحقائق، وثانيًا: تشويش القارئ أو المشاهد، وثالثًا: هو يعبر أيضًا عن نوع من عدم الثقة في القارئ، فكأن القارئ لن يهتدي إلى الحقيقة بمجرد الاكتفاء بذكر الحدث كما هو بالضبط، ورابعًا: هذا الخلط يعني فرض وصاية على المتلقي؛ لأن الرأي يحمل في مضمونه معنى النصيحة والتوجيه.

المال والإعلام
وفي هذا الصدد لا يمكن بالطبع إغفال دور (رأس المال) الذي تزاوج بطُرق غير شرعية مع (الإعلام)، والذي يسعى لفرض رؤيته وأفكاره لتوجيه الرأي العام بما يصب في مصالح فئة بعينها.. وعن هذا حدِّثْ ولا حرج!!

وفي رأيى، فإن من أهم الأسباب وراء الارتباك الحاصل في الساحة الإعلامية المصرية الآن- ومما يعد أحد مظاهر تزاوج رأس المال والإعلام!!-  هو كثرة برامج (التوك شو) التي تحولت إلى منابر سياسية، بل إلى منصات للقضاء! وخرج فيها المذيع (أو المذيعة!!) من دور المحُاور الموضوعي إلى دور القاضي، وربما: الجلاَّد، لصالح رأس المال الذي يدير هذه القناة الفضائية أو تلك.

وبالتالي تحول رجال الأعمال- في الخفاء!- إلى رجال سياسة يعملون على توجيه الرأي العام والتأثير على متخذي القرار عن طريق إثارة بعض القضايا أو تسليط الضوء عليها بطريقة ما.. خاصة إذا تعلق الأمر بالإسلاميين، فنرى تضخيمًا للأمور وتصيّدًا للأخطاء، وابتسارًا للخبر وعرضه في سياق يوحى بعكس المقصود منه، بل ونرى اختلاقًا لبعض الأخبار الكاذبة، وتحريفًا للتصريحات!!

كما حدث مع الجمعية الشرعية فيما هو مُبيَّن بمجلة "التبيان" عدد (رمضان 1432هـ، ص:61) إذ نسبت "المصري اليوم" لرئيس الجمعية الشرعية د. محمد المختار المهدى أنه قال: "من يهاجمون الدولة الإسلامية كفار ويريدون الزنا والفحشاء"، بينما الذي قاله فضيلته هو أن (التخويف من الإسلام هو صناعة غربية سموها "الإسلاموفوبيا" وأن هؤلاء يكرهون ما أنزل الله ويصدون الناس عن دينه لمآربهم الشخصية في بلادنا الحبيبة).

ويرصد د. سيف الدين عبد الفتاح- أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة- (في الأهرام 30/7) دورَ الإعلامِ فيما أسماه "صناعة الفوضى" وتأثير ذلك في التوترات التي شهدها ميدان التحرير في الآونة الأخيرة، فيقول: (مشهد الإعلام الفضائي والإعلام الصحفي شكَّل حالة تعبوية ضخَّمت الموجود في "التحرير" وهمشت القوى الأخرى، وأدار معركة غالب أركانها يستند إلى معلومات تفتت وتزرع الفتنة بين القوى المختلفة، وأسند ذلك إلى أن "الشارع يقول"، من دون أي مصدر محدد في محاولة لصناعة البرامج المسماة زورًا ب "الحوارية" للإبقاء عن حالة من التنافي والاستقطاب. الإعلام قدَّم صفحة أسوأ ما تكون في تاريخ مصر حينما تحرك في صحافة سمت نفسها ب "المستقلة".. هكذا قالوا، أي أنها ليست بالصحف القومية المظنون بها أنها صحافة السلطة.

فمن وراء هذا الإعلام؟! تساؤل ينقلنا إلى المشهد الرابع وهو "المال السياسي" الذي انتقل من استفادته من النظام الفاسد السابق، وأنا أقدم من هذا المنبر بلاغًا في معظم رجال الأعمال المستخدم للمال السياسى في فضائيات وصحف كانت من ذراري زواجٍ متفق بين النظام السابق ورجال الأعمال، وحالة زبانيته بعد أن صارت العلاقة غير الشرعية بين رجال الأعمال بمالهم السياسي والإعلام. يمارس كل هؤلاء كل أساليب الكلام الشفاهى والمكتوب بين "كلام الفتنة" و "فتنة الكلام").

بل يذهب الأستاذ فهمى هويدى في حواره مع الأهرام (27/6) صراحة إلى اتهام أحد رجال الإعلام (نجيب ساويرس) بأنه يسعى لتوجيه الرأي العام من خلال وسائل الإعلام التي يملكها أو يشارك فيها، فيقول هويدى: (الإعلام الخاص مثلا الآن يعمل لحساب رجال الأعمال، مثل مشروع «ساويرس» اليوم في «المصري اليوم»- فمنذ أيام تقرأ عنوانًا عندهم «قوى الثورة....» وتقرأ الخبر فتجد أن حزب ساويرس هو الذي يريد ذلك، ثم تجد قناة (ON TV)  في آخر النهار، تقول نفس الكلام).

إيصال رسالة أم تسلط في الأداء؟
وربما يأتي الخلط بين الخبر والرأي بسبب الحرص على إيصال رسالة محددة، أو إثبات الذات، خاصة وسط هذا الكم الهائل في وسائل الإرسال (من صحافة وتلفزيون) التي يبدو المتلقي أمامها مندهشًا أو حائرًا!

وقد يكون هذا التفسير له قدر من الصحة.. لكنى رغم ذلك أعتقد أن الحقيقة المجردة هى خير دعاية للحقيقة نفسها، وأننا يجب أن نثق في عقل المتلقي وقدرته على الفهم والتحليل والمقارنة.. لا أن نتعامل معه على طريقة (الأب الفاضي) الذي يقف لابنه بالمرصاد وعلى كل صغيرة وكبيرة ويقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا.. ويمارس عليه التسلط والكبت طوال الوقت، مما يضعف شخصية الابن ويفقده النمو العقلي والتفتح الذهني والقدرة على التعامل مع المواقف، بعيدًا عن وصاية أبيه.

ومن الطريف أن الأنظمة الديكتاتورية تتعامل بمنطق هذا (الأب الفاضي) مع الشعوب، ولا تتيح أمامها خيارات متعددة؛ لأنها ترى نفسها الأقدر على فهم الأمور ومعالجة القضايا والاختيار.. فلماذا يختار الشعب ويتعب نفسه طالما أن الحكومة تعمل له كل شيئ وتمارس بالنيابة عنه وضع القوانين والتشريعات؟!

الخبر ثم الرأي
إن الصحافة الناجحة هي التي تلتزم بـ (ميثاق الشرف الصحفي) فتذكر أولاً الأخبار بكل تفاصيلها المعتمدة على المصادر الموثوقة وشهادات العيان.. ثم تفتح الباب واسعًا أمام الآراء والتحليلات في الأعمدة وصفحات الرأي، مع الحرص على تقديم آراء متعددة.

فالمعادلة الصحيحة: الخبر ثم الرأي.. لا العكس.. ولا الخلط بينهما.. وإذا كانوا في القانون يقولون: الحكم عنوان الحقيقة، ففي الإعلام: الخبر عنوان الحقيقة.

لقد ثبت بخبرة التاريخ أن الصحافة الموجهة التي تقدم رأيًا واحدًا بطريقة فجة.. لا تجد قبولاً لدى المتلقي.. وتجربة الصحف الرسمية في مصر والعالم العربي خير دليل!

صحيح أنه لا يوجد إعلام محايد أصلاً، ولا موضوعي بنسبة 100%؛ بمعنى أن أي وسيلة إعلام لابد أن يكون لها اتجاه ما تحاول أن تروج له وتدافع عنه، وهذا أمر يبدو طبيعيا ومنطقيًّا، لأنه ليس معقولاً أن ينشئ أحد وسيلة إعلام دون أن يكون ثمة هدف من ورائها.

لكن المطلوب أن نفرق بين الحياد والموضوعية والذاتية:
* الحياد هو خرافة كبيرة، وهو يعنى الميوعة وعدم وضوح الرؤية، لأن أي إنسان- أو مؤسسة إعلامية- لابد أن يكون له رأى في المسائل المطروحة، بغض النظر عن صواب هذا الرأي؛ ولا يمكن أن يكون الإنسان حياديًّا أبدًا مهما حاول أن يُخفي رأيه المباشر.

* والموضوعية تعنى أنك تستند إلى الحقائق والأرقام لا الأهواء، وتخاطب العقول بالحجج والبراهين، وأنك تحترم وجهات النظر الأخرى وتقدمها كما هي دون تشويهها أو الافتراء عليها.. لأن تجاوز الموضوعية يجعلنا نقع في شباك الدعاية، ويُحوِّل الإعلام إلى إعلان!!

* أما الذاتية فهي من صفات الأديب؛ لأنه ينطلق في أعماله من مشاعره وأفكاره وتجاربه الخاصة، وقد يجنح إلى الخيال غير مرتبط بالواقع.. ولذلك الأعمال الأدبية ليست حجة في الاستدلال على الوقائع بقدر ما هي تسعى للترويج والدعاية للأفكار.

والخلاصة المهمة التي تبدو ملحة، خاصة في ظل هذا الفضاء الواسع الذي أتاحه ربيع الثورات العربية، أننا نحتاج إلى أن نقترب من (الموضوعية) بأكبر درجة ممكنة.. وإلى الأخبار الموثقة التي تضعنا في قلب الحدث وأبعاده، أكثر من حاجتنا إلى الرأي الذي يمارسه البعض بما يشبه الوصاية والديكتاتورية!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
السنوسي محمد السنوسي (البيان:292)

www.islamweb.net