أسلوب (الحذف) في القرآن

10/12/2012| إسلام ويب

الحذف في كلام العرب أسلوب معهود ومسلك معروف، يعمدون إليه لتحقيق أغراض بلاغية معينة، تفيد في تقوية الكلام، وإخراجه على الأسلوب الأمثل. وقد جاء القرآن على وفق نهج العرب في الكلام، فاعتمد الحذف أسلوباً من جملة أساليبه البلاغية.

المراد من الحذف

و(الحذف) لغة: الإسقاط. واصطلاحاً: إسقاط جزء من الكلام، أو كله لدليل يدل عليه. 

أقوال العلماء فيه

يُجمع اللغويون على أن الحذف في كلام العرب كثير، إذا كان في الكلام ما يدل عليه. ومن أقوالهم في ذلك ما ذكره ابن جني في كتابه (الخصائص) تحت عنوان: باب في شجاعة العربية، قال: "اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى...". وقال أيضاً: "قد حذفت العرب الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة". وقال الجرجاني في (دلائل الإعجاز) منوهاً بقيمة أسلوب الحذف: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد في الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تُبِنْ". 

فوائده

يذكر علماء اللغة والبلاغة أن الحذف في الكلام لا يكون عبثاً، وإنما يكون لغرض وفائدة، كأن يكون الحذف بقصد التفخيم والتعظيم، أو زيادة اللذة باستنباط المعنى المحذوف، أو طلباً للإيجاز والاختصار، أو لغير ذلك من الفوائد البلاغية. قال الجرجاني في هذا السياق: "ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها، إلا وحذفه أحسن من ذكره". 

أسبابه

وللحذف أسباب تدفع إليه، وتسوغ اللجوء إليه، من ذلك الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، نحو قولك: الهلال والله، والتقدير: هذا الهلال والله، فحذف المبتدأ استغناء بدلالة الحال؛ إذ لو ذكره لكان عبثاً. 

ومن ذلك التنبيه على أن الزمان لا يُسعف بالإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم، نحو قوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} (الشمس:13)، فحذف الفعل على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله فلا تقربوها. 

ومنها التفخيم والإعظام، من ذلك قوله تعالى في وصف حال أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} (الزمر:73)، فحذف جواب الشرط؛ إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه. ومن هذا الباب أيضاً، قوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} (طه:78)، أي: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. 

ومنها التخفيف؛ لكثرة جريانه في كلام العرب، كما حذف حرف النداء في قوله سبحانه: {يوسف أعرض عن هذا} (يوسف:29)، وتقدير الكلام: يا يوسف. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {والليل إذا يسر} (الفجر:4)، حذفت الياء للتخفيف. والأصل: يسري. 

ومنها رعاية خواتم الآيات (الفاصلة)، نحو قوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} (الضحى:3)؛ إذ الآيات السابقة واللاحقة لها منتهية بالألف المقصورة. 

ومنها شهرة المحذوف حتى يكون ذكره وعدمه سواء، من ذلك قوله سبحانه: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} (النحل:30)، والتقدير: أنزل خيراً. حذف الفعل؛ لأن ذكره وعدمه سواء؛ لدلالة السياق عليه. 

أدلته

تقدم أن الحذف لا بد أن يكون لدليل، ودليل الحذف قد يكون دليلاً يقتضيه العقل، وقد يكون دليلاً يقتضيه الشرع، وقد يكون العادة، وقد يكون السياق، وقد يكون غير ذلك، وهاك بعض تفصيل لذلك. 

مثال الدليل الذي يقتضيه العقل قوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها} (يوسف:82)، فإنه يستحيل عقلاً تكلم الأمكنة إلا معجزة، فكان لا بد من تقدير سائل عاقل، فقالوا: التقدير: واسأل أهل القرية. ونحو هذا قوله سبحانه: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} (طه:96)، فدليل العقل يقتضي أنه إنما قبض من أثر حافر فرس الرسول. 

ومثال الدليل الذي يقتضيه الشرع قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة:184)، وتقدير الكلام: من كان مريضاً أو على سفر فأفطر، فعليه أن يقضي ما أفطره من أيام.

وقد يكون دليل الحذف العادة، كقوله تعالى: {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} (آل عمران:167)، أي: مكان قتال، والمراد مكاناً صالحاً للقتال؛ لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، والعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقة القتال، فلذلك قدره مجاهد: مكان قتال. 

وقد يكون دليل الحذف اللفظ نفسه، كقوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} (الفاتحة:1)، فاللفظ يدل على أن فيه حذفاً؛ لأن حرف الجر (الباء) لا بد له من متعلق.

وقد يكون دليل الحذف سياق الكلام، من ذلك قوله سبحانه: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} (الأحقاف:35)، أي: هذا بلاغ، بدليل ظهوره في موضع آخر: {هذا بلاغ للناس} (إبراهيم:52). 

شروطه

ألمحنا بداية إلى أن الحذف لا يكون عبثاً، وإنما يكون لغرض وغاية، ومن ثم ذكر اللغويون بعض الشروط ليستقيم أسلوب الحذف في الكلام، ومن أهم الشروط التي ذكروها لصحة الحذف: أن يكون في الكلام دلالة على المحذوف، إما من لفظه أو من سياقه، وإلا لم يتمكن من معرفته، فيصير اللفظ مخلاً بالفهم؛ ولئلا يصير الكلام لغزاً، فيبعد عن الفصاحة، وهو معنى قولهم: لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى. ومن الأمثلة على هذا الشرط قوله سبحانه: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} (النساء:1)، والتقدير: ارحموا الأرحام. وهذا مستفاد من اللفظ. وذكروا شروطاً أخر للحذف، ليس هذا مقام تفصيلها. 

أقسامه

يأتي الحذف في كلام العرب - وكذلك في القرآن الكريم - على أقسام، نذكر منها:

أولاً: الاقتطاع: وهو ذكر حرف من الكلمة وإسقاط الباقي، ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وامسحوا برءوسكم} (المائدة:6)، قيل: إن (الباء) هنا أول كلمة (بعض) ثم حذف الباقي، والتقدير: فامسحوا بعض رؤوسكم. وجعل بعضهم من هذا القسم حروف فواتح السور. 

ثانياً: الاكتفاء: وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيُكتفى بأحدهما عن الآخر. وأمثله هذا القسم كثيرة، أبرزها قوله تعالى: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} (النحل:81)، أي: والبرد. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وله ما سكن في الليل والنهار} (الأنعام:13)، والمراد: وما تحرك في النهار، وإنما آثر ذكر (السكون)؛ لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد. 

ثالثاً: الإضمار: وهو أن يضمر من القول المجاور لبيان أحد جزأيه، كقوله تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159)، وقد شهد الحس والعيان أنهم ما انفضوا من حوله، وانتفى عنه صلى الله عليه وسلم أنه فظ غليظ القلب. ونحو هذا قوله سبحانه: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال:23)، المعنى: لو أفهمتهم عليه، لما أجدى فيهم التفهيم، فكيف وقد سُلبوا القوة الفاهمة! فعُلِم بذلك أنهم مع انتفاء الفهم أحق بفقد القبول والهداية. 

رابعاً: أن يستدل بالفعل لشيئين، وهو في الحقيقة لأحدهما، فيضمر للآخر فعلاً يناسبه، كقوله سبحانه: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} (الحشر:9)، والتقدير: واعتقدوا الإيمان. ونحو هذا قوله عز وجل: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات} (الحج:40)، و(الصلوات) لا تهدم، فالتقدير: ولتُركت صلوات. 

خامساً: أن يقتضى الكلام شيئين، فيقتصر على أحدهما؛ لأنه المقصود كقوله سبحانه: {قال فمن ربكما يا موسى} (طه:49)، قال ابن عطية: ولم يقل: (وهارون)؛ لأن موسى المقصود المتحمل أعباء الرسالة. 

سادساً: أن يذكر شيئان، ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر كقوله سبحانه: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها} (الجمعة:11)، لم يقل: إليهما، وتقدير الكلام: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما؛ لدلالة المذكور عليه. ونحو هذا قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} (التوبة:34)، فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة، وأعاد الضمير على الفضة وحدها؛ لأنها أقرب المذكورين؛ ولأن الفضة أكثر وجوداً في أيدي الناس. وهذا القسم من الحذف كثير في القرآن. 

سابعاً: الحذف المقابلي، وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحدف من واحد منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه كقوله سبحانه: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} (التوبة:102)، تقدير الكلام: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح؛ لأن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به، والمعنى: تارة أطاعوا، وخلطوا الطاعة بكبيرة، وتارة عصوا، وتداركوا المعصية بالتوبة. ونحو هذا قوله تعالى: {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} (الأحزاب:24)، قال المفسرون: تقديره: يعذب المنافقين إن شاء، فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم. وهذا القسم كثير في القرآن أيضاً.

بقي أن نقول: إن الحذف في القرآن الكريم قد يكون حذفاً لاسم، أو فعل، أو حرف. و(الاسم) المحذوف قد يكون مبتدأ، أو خبراً، أو فاعلاً، أو مفعولاً وهو كثير، أو مضافاً وهو كثير، أو مضافاً إليه وهو قليل، أو جاراً ومجروراً، أو موصوفاً، أو صفة، أو معطوفاً، أو معطوفاً عليه، أو مبدلاً منه، أو موصولاً، أو ضميراً متصلاً، أو حالاً، أو منادى، أو شرطاً، أو جواباً للشرط وهو كثير، أو جملة، أو قولاً. و(الفعل) المحذوف قد يكون فعلاً خاصًّا، أو فعلاً عامًّا. و(الحرف) المحذوف قد يكون حرفاً جارًّا وهو كثير، أو حرفاً في نهاية الكلمة، وهو أكثر ما يكون في نهاية الآيات. ولكل قسم من هذه الأقسام تفصيل وتمثيل، لا يتسع المقام له. 

www.islamweb.net