منزلة العقل في الإسلام (2)

28/05/2014| إسلام ويب

علاقة العقل بالنقل، مسألةٌ شغلت عقول المتأخّرين، وتشابهت على المتشكّكين، واستغلها المرجفون للطّعن في الدين، فتضاربت العقول بحكم اختلافها، وضلّت الأطروحات في التقرير لها، فكان من الطبيعيّ أن يقع فيه من وقع، لضعفٍ في العلم الشّرعي من جهة، وتأثّر بالوضعي من جهةٍ ثانيةٍ، واختلافٍ في مدراك العقول من جهةٍ ثالثةٍ كما قرّرناه في المقال السابق .

وقد بيّنا سابقاً مكانة العقل في الإسلام، وكيف نادى الله تعالى إلى استخدامه للوصول إلى الحق، لكن السؤال المطروح: ما علاقة العقل بالنقل حينما يسلّم الأول بصحّة الثاني ؟ ويتوصّل إلى صدقه وتيقّن من سلامته ؟ وللجواب عن السؤال نقول :

العقل ليس حكَماً مُطلقاً على النّقل :
ألم تر معي في رياضة العدو المُشترك، ينطلق المتسابق الأول مسافةً معيّنةً من الجري، فما إن يصل إلى صاحبه حتى يسلّمه المشعل ليُكمل الطريق ويفوز في السباق ؟

تلك إن أردتَ مثالٌ على علاقة العقل بالنّقل، فالأوّل موصلٌ إلى الرسالة الحقّة، يحسم في أمر الدّين المتّبع، وأي نبيٍّ هو صادق، فلما ينتهي من ذاك فإنّه يسلّم المشعل إلى النّقل، فيكون التّسليم مبدءاً عقليّاً بحثاً. ولا دورَ له في تأمّل الغيبيات التي لا يمتلك وسائل الخوض فيها من أمثال : كيف استوى الله على عرشه ؟ وكيف سيمّر النّاس على الصراط وهو أرفع من الخيطِ وأشباه ذلك .

لأن العقل يؤمن بصدق المُخبر وأن خالق الكون لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، مطلق الحكمة، ومطلق القدرة، فيكون التّسليم نتيجةً يتوصّل إليها العقل حينها.
ثم إن دور العقل بالنسبة إلى النّقل حينها يكون كآلة استنباطٍ منه، يعمل في ضوء أصولٍ وقواعد معيّنةٍ يتداخل فيها العقليّ بالنّقلي لضبط تلك العمليّة، وضمان عدم تقديم الهوى أو الانحراف في مسائل الاجتهاد، والعقلُ المجرّد أداةٌ قد تصيب وقد تخطيء.

ومن جهةٍ أخرى فالعقل الصريح لا يخالف النّقل الصّحيح، لأن الله عزّ وجل خالق الكون متصفٌ بالحكمة والمشيئة والقدرة، يجازي المؤمنين ويعاقب الكافرين، خالق العقول والمدارك، والمتّصفُ بصفات الكمال، فلا يوحي بما يناقض العقل الصريح، لكنَّ التعارض الموهوم لا يأتي إلا حين يكون النّقلُ لا سبيل للعقل أن يخوض فيه، ويُعتبر من محارات العقول، كمعجزة الإسراء والمعراج، وأن يقطع النبيّ مسافات كبيرة في وقت وجيزٍ، فهنا يكون العقل له وظيفة التسليم، ومنه على سبيل المثال، لو جاء أحدهم من عصرنا وقال لأهل عصر الجاهلية إني لجئتُ من المغرب إلى مكّة في يومٍ واحدٍ عبر الطائرة، وكان الرجل صدوقاً، فإن عقولهم لا تتصور أن يقطع المُخبر في يومٍ ما يقطعونه في أشهرٍ على الجمال . فعلى هذا فقس .

ومن هنا قال العلماء أن الأنبياء جاؤوا بمحارات العقول لا بمحالاته، أي أن الأخبار يعلم العقل عدم بطلانها لكنه غير قادرٍ على تصوّرها، ويحير في تخيّلها، يقول الإمام ابن تيمية : " يجب الفرق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه، وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته : فالأول من مُحالات العقول، والثاني : من محارات العقول، والرّسل يُخبرون بالثاني " (1)

ويقول في موضعٍ آخر في كتابه : " والأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته لا بما يعلم العقل بطلانه فيخبرون بمحارات العقول لا بمُحالات العقول " (2)

ولهذا ضلَّ من ضلَّ من الفرق الإسلاميّة، حينما أعملوا عقولهم لدرجة إبطال النصوص الصحيحية وتأويلها بما لا تحتمله، كالمعتزلة والمجسّمة وغيرهم .. فالعقل مع النّقل في باب العقائد كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك، لأن الأصل وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم، نفياً وإثباتا، فنؤمن بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وإثبات الصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، نثبت ولا نشبّه، وننزه ولا نعطل.

لكن في الفرعيات له دورٌ كما أسلفنا في الاستنباط والفهم والتفسير، ونقصد العقلَ المسدَّدَ بالوحي ، وليس المجرّد، حيث أن الأول يكون خاضعاً لقواعد وأسس، ومتوسّعاً في العلوم الشرعيّة.

ومنه نقد الأحاديث التي تنقسم إلى قسمين :
- تمحيص السند : وهو معرفة حال الرواة وعدالتهم. وتمحيص المتن : وهو ضروري في عملية التمحيص الحديثي، وقد وضع العلماء شروطا عديدة لصحة المتن جمعها الشيخ مصطفى السباعي في كتابه "السنة ومكانتها في التشريع"(3)
* ألا يكون ركيك اللفظ، بحيث لا يقوله بليغ ولا فصيح.
* ألا يكون مخالفا لبديهيات العقول بحيث لا يمكن تأويله.
* ألا يخالف القواعد العامة في الحكم والأخلاق.
* ألا يكون مخالفا للحس والمشاهدة ، وللحقائق التاريخية.
* ألا يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع.
* ألا يخالف المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله.
* ألا يخالف القرآن الكريم أو محكم السنة أو المجمع عليه أو المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث لا يحتمل التأويل.

كما لخّص ولي الله الدهلوي هذه القواعد في كتابه "العجالة النافعة" فليراجع.

وقال ابن الجوزي قديماً رحمه الله: "ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع" (4)

ونقد المتون قد اشتهر استخدامه من قبل الصحابة رضوان الله عليهم، وفي مقدّمتهم أم المؤمنين عائشة وابن عباس وعمر رضي الله عنهم جميعا . (5) وكل ذلك جمعه الإمام الزركشي في "الإجابة".

ولا يُتصوّر معارضة صريح العقل لصحيح النّقل، وهي خلاصة ما استنتجه الإمام ابن تيمية في كتابه فقال : " ما عُلم بصريح العقل لا يُتصور أن يعارض الشرع ألبتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضة معقولٌ صريحٌ قط. وقد تأمّلت ذلك في عامّة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة الصّحيحة شبهاتٌ فاسدةٌ يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع. ووجدتُ ما يُعلم بصريح العقل لم يخالفه سمعٌ قطّ، بل السمع الذي يُقال إنه يخالفه : إما حديثٍ موضوع، أو دلالةٌ ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرّد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول "(6)

ومن هنا كان تعارضُ العقل والنّقل، مجرّد خرافةٍ، أساسها اختلاف مدارك العقول، والتسليم للشّبهات، وعدم الانضباط بالضوابط العقليّة الصريحة، والأساسات المنطقيّة السليمة.

هوامش المقال
1-الجواب الصحيح ، الجزء 4، ص : 391.
2-المصدر السابق، الجزء 4، ص : 400.
3- للتوسع أكثر المرجو مراجعة الكتاب من الصفحة : 116 فما فوقها .
4- تدريب الراوي، للسيوطي، الجزء 1، ص : 274.
5- للتوسّع أكثر راجع كتاب الإجابة للزركشي، ومقاييس نقد المتون لمسفر الدميني.
6-درء التعارض، الجزء الأول، ص : 148.
 

www.islamweb.net