عزل الإعلام الفاسد

09/11/2014| إسلام ويب

مما لا شكَّ فيه أنَّ الإعلام يُسهِم في تشكيل أفكار الأمَّة، وهذا التشكيل إمَّا أن يكون عاملَ بِناء يَحثُّ الأمةَ على التقدُّم والتنمية والتماسُك، وإمَّا أن يكون عاملَ هدْم يُحدِث اضطرابًا وقلَقًا فكريًّا واعتقاديًّا، بل واجتماعيًّا، وما نراه في عالَم الإعلام المُشاهَد والمسموع والمقروء؛ بل وإعلام (الإنترنت والفيس بوك والتويتر، وخلافه) - نرى أنْ أَكثرَه يُحدِث فتنةً عارمة طائشة، لا تتركُ أحدًا إلا وتَنال منه؛ لأنَّه إعلام لا ضابط له، فأكثرُ رؤساء تحريره ومُحرِّريه العاطِلون والمُستأجَرون.

إنَّ الإعلام النزيه المِهني هدَفُه واضِحٌ، يَعرِض القضايا عرضًا أمينًا، ويَقِف على مسافة واحدة مع جميع الأطراف التي يتعاملُ معها؛ فلا يُجامِل طرفًا على حساب الآخر، ولا يَتحامَل عليه؛ لأنَّ كلَّ هَمِّه الوصول إلى الحقيقة، فليس همُّه إحداثَ السَّبق الصحفي، ولا هدَفُه تشويه فَصيل يَختلِف معه في الرُّؤى، ولا يَستخدِم إعلامه من أجل تحقيق مَآرب شخصيَّة أو مؤسَّسيَّة.

إنَّ الإعلام الحقَّ الذي يَدفَع الظلامَ والظُّلم عن الناس، وليس الإعلام الذي يَكيلُ بمكايل متعدَّدة، ولنأخذ مثالاً من إعلامنا الإسلامي؛ كي نرى كيف كان هدفه رفْعَ الظلام والظُّلم عن الناس، وإن بَذَل صاحبُ هذا الإعلامِ نفسَه من أجل ذلك؛ وذلك لأنَّه إعلام له رسالة يَسعى من أجل الوصول إليها، رسالة يعيش من أجلها، ويموت في سبيلها، وصاحبُ هذا المشهدِ الإعلامي هو الغلام الذي عُرِفت قصَّتُه بقصَّة (أصحاب الأخدود)، عندما استخدَم الإعلامَ المسموع والمشاهَد في خدمة قضايا الأمَّة، هذه الأمة التي وقَف المَلِك الظَّالِم وأعوانُه من السَّحرة والبطانة السيئة ضد مصالِحها زاعِمين مَصلحَة الأمة، هذا الملك ومعه الساحر - وكلُّ ملِك ظالم في كلِّ عصر معه ساحر، قد يكون إعلامًا، قد يكون أشخاصًا مُنتفِعين، قد وقد وقد.

إنَّ الغلام لا يُريد أنْ يقِف مَكتوفًا، حظُّه التألُّم، وشجْب واستنكار ما يَحدث، ففكَّر في وسيلة لدفْع الظُّلم ورفْع الظلام، فكانت وسيلتُه الإعلامية المُحكَمة؛ حيث قال للملك: "إنَّك لست بقاتلي حتى تَفعلَ ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تَجمعُ الناس في صعيد واحد - إعلام مَسموع ومُشاهَد - وتَصلُبني على جذْع، ثم خذ سهمًا من كِنانتِي، ثم ضعِ السهمَ في كبِد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارْمِني؛ فإنَّك إذا فعلتَ ذلك قتَلتَني، فجَمَع الناسَ في صعيد واحد، وصلَبه على جِذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضَع السهمَ في صُدْغه، فوضَع الغلام يده في موضِع السهم فمات، فقال الناس: آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا برب الغلام"؛ رواه مسلم.

وهذا الإعلام الهادف نرى منه صورًا مُتكرِّرة في كتاب ربِّنا وسُنَّة نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث نرى مشهدَ الرجل الصالح وهو يدْعو قومَه راجيًا لهم الهداية: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر: 38 - 41]، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - عندما أمَره ربُّه أنْ يعم بالإنذار - والإنذارُ إعلامٌ - صعِد رسول الله - صلَّى الله تَعالى عليه وسلم - الصفا، فهَتَف: [ياصَباحَاه، يا بَني عبدالمطلب، يا بني عبدمناف]، حتى ذكَر الأقرب فالأقرب من قبائل قريشٍ، فاجتمعوا إليه، وقالوا: ما لك؟ قال: [أرأيتُكم لو أخبرتُكم أنَّ خيلاً تَخرُج من سفْح هذا الجبل، أكنتُم تُصدِّقوني؟]، قالوا: بلى؛ ما جرَّبنا عليك كَذِبًا، قال: ((فإنَّي نذير لكم بين يدَي عذابٍ شديدٍ))، فقال أبو لَهب: تبًّا لك ألهذا جَمعْتنا، ثم قام فأنزل الله - تعالى -: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، إلى آخر السورة.

هذا هو الإعلام المُضادُّ - تبًّا له - إعلام التضليل والتجريح، والخوض في أعراضِ الناس، والإيقاع بين الناس، إعلان التخويف من الإسلام، هذا هو إعلام عبدالله بن أُبَي ابن سلول الذي يُظهِر الشفقةَ على الناس: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُم}[الأنفال: 48]، ويُظهِر الخوفَ من الله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة: 28]، إعلان لَحْن القول والقعود على الصراط المستقيم: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: 16]، صدق الله العظيم، {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِم}[الأعراف:17].

نعم لقد جاؤونا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ما أنْ تُقلِّب القنوات إلا وتَجدهم مُتربِّصين يَتناقَلون الأخبار دون تَحقُّق وتَثبُّت: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}[النساء: 83].

والذي يُتأسَّف له أنَّ فينا سَمَّاعِين لهذا الكذِب وهذا الافتراء: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}[المائدة:41]، فبدلاً من أنْ نعزِل هذا الإعلام الفاسِد، نرى الذين يَسمعون، بل ويُصدِّقون هذا الكَذِب، هذا الإعلام الذي تَنهالُ عليه الأموال، وتُصبُّ عليه الأوقاف صبًّا، إعلام فاسِدٌ لا بدَّ أنْ يُحجَر عليه كما يُحجَر على السفيه؛ لأن هذا السفيه يَضرُّ نفْسَه ومن حوله؛ فعَزلُه واجب على وليِّه، وإنْ لَم يَعزِله، فعزلُه واجب على الشعب كلِّه؛ لأنَّنا لو تركنا هذا الإعلام الفاسِد، لنَخَر بسوسه وجهْله في جَسَد الأمة، بل وأَغَرق الأمة كلَّها، كما أراد أصحاب الدَّور السُّفلي أن يَخرِقوا خَرْقًا في نصيبهم؛ حتى لا يَضرُّوا من فوقهم. والشعب إنْ تَرَكهم هلكنا جميعًا، وإنْ أخذ على أيديهم نَجونا جميعًا.

وقد تَمَّ هذا العزل على عهْد عمر - رضي الله عنه - حيث جاء صبيغ التميمي إليه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات: 1]؟ فقال: هي الرياح، ولولا أنِّي سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلتُه"، قال فأخبرني عن: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات: 4] قال: هي الملائكة، ولولا أنِّي سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلتُه"، قال فأخبرني عن: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات: 3]؟، قال: هي السفن، ولولا أنِّي سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله ما قلتُه"، ثم أَمَر به فضُرِب مائة، وجُعِل في بيت، فلما بَرَأ دعا به، وضرَبَه مائة أخرى، وحَمَله على قَتَب، وكَتَب إلى أبي موسى الأشعري: امنع الناس من مُجالستِه، فلم يزل كذلك حتى أتَى أبا موسى، فحلَف بالأيمان الغليظة ما يَجد في نفسه مما كان يَجد شيئًا، فكَتَب في ذلك إلى عمر، فكَتَب عمر: ما إخاله إلا صَدَق، فخلِّ بينه وبين مُجالَسة الناس.
 

www.islamweb.net