الفتح في صلح الحديبية

28/06/2015| إسلام ويب

في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من أصحابه، متجهين تلقاء مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، وحملوا معهم السلاح توقعاً لشر قريش، فلما وصل إلى ذي الحليفة أهلَّ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاً هو ومن معه، وبعث بُسر بن سفيان إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش وردود أفعالهم، وحين وصل المسلمون إلى عسفان (مكان بين مكة والمدينة) جاءهم بُسر بخبر يفيد استعداد قريش لصد المسلمين عن وجهتهم، ومنعهم من دخول مكة. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار أبو بكر رضي الله عنه بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة والطواف بالبيت، وقال: (فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال صلى الله عليه وسلم: امضوا على اسم الله) رواه البخاري. ثم سلك النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه طريقاً وعرة متوجها إلى مكة، حتى إذا اقترب من الحديبية بركت ناقته، فقالوا: (خلأت القصواء (امتنعت عن المشي) فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها (أجبتهم إليها) رواه البخاري

وقرب موضع يقال له: الحديبية قبيل مكة، أرسلت قريش عروة بن مسعود مندوباً عنها للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الاتفاق والصلح، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد سَهُلَ لكم مِن أمركم) رواه البخاري، وفي رواية البيهقي قال صلى الله عليه وسلم: (قد أراد القومُ الصُّلحَ حين بعثوا هذا الرجل).

وقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يُمْلي شروط الصلح، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يكتب، فكان مما أملاه صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا فكتبها كذلك، ثم أملى صلى الله عليه وسلم: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله، إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله).

وقد أسفرت المفاوضات بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش عن اتفاق سُمِّيَ في التاريخ والسيرة النبوية بصلح الحديبية، يقضي بهدنة بين المسلمين وقريش، وترك الحرب عشر سنين، وعدم دخول المسلمين البيت الحرام من عامهم ذاك معتمرين، ولكن يحلون إحرامهم، ثم يأتون العام المقبل لأداء العمرة، كما اشترط المشركون أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي إليه من قريش مسلماً، وألا ترد قريش من يأتيها مرتداً، وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير قريش دخل فيه.. قال سُهَيْل بن عمرو: (على أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ وإنْ كان على دِينِك أو يُريد دينك إلَّا رددْتَه إلينا) رواه ابن حبان.

وافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على كل شروط المشركين في المعاهدة، قال الزهري: "وذلك لقوله: (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وقد بدا لبعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن إجحافاً وذلاً وقع على المسلمين نتيجة لهذه المعاهدة، حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال: فَلِمَ نعطِ الدنية في ديننا إذاً؟!) رواه البخاري. لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مدركاً وموقناً أن هذا الصلح سيكون فتحاً وخيراً وبركة على المسلمين بعد ذلك.

طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مخالفاً للعقل

كَرِهَ عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة هذا الصلح، ورأوا في شروطه ظلماً وإجحافاً بالمسلمين، لكنهم ندموا على ذلك، وظلت تلك الحادثة درساً لهم فيما استقبلوا من حياتهم، فكان سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: "اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل (يوم صلح الحديبية) ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"، وبقي عمر رضي الله عنه زمناً طويلاً متخوفاً أن يُنْزِلَ الله عز وجل به عقاباً، لقوله للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (فَلِمَ نعط الدنية في ديننا إذاً)، وكان يقول: "فما زِلتُ أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ". ومن ثم فمن فوائد صلح الحديبية الهامة أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا أن في طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم والرضى والتسليم لحكمه الخير والصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وإن خالف أمره النفس والعقل، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65)، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور:54)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).

لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها

من الفوائد المهمة من صلح الحديبية ما ذكره ابن القيم في كتابه زاد المعاد: "ومنها: أن المشركين وأهل الفجور إذا طلبوا أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله، أُجيبوا إليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على تعظيم ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون ما سوى ذلك، فمن التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى أجيب إلى ذلك كائناً مَنْ كان، ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه"، قال الزهري: "وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها (أجبتهم إليها). قال ابن بطال: "يريد بذلك موافقة الله فى تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الإعذار إلى أهل مكة، فأبقى عليهم لما كان سبق فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجاً". وقال الخطابي: "معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة، والكف عن إراقة الدماء".

حبسها حابس الفيل

استنبط ابن حجر فائدة جليلة في شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه لمكة قبيل عقد صلح الحديبية: (حبسها حابس الفيل) فقال: "ومناسبة ذكرها (قصة الفيل) أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال، قد يُفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خَلْقٌ منهم، ويُستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جَمْعٌ كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمِنَ أن يُصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الفتح:25) .. وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة، وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأن أصحاب الفيل كانوا على باطلٍ مَحْض، وأصحاب هذه الناقة -المراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا على حقٍ محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقاً".

فتح مبين

لقد كان صلح الحديبية ـمع ما في ظاهره من إجحاف بالمسلمينـ مفتاحاً لفتح مكة، وغيرها من الفتوحات الإسلامية بعد ذلك، فقد اختلط المسلمون بالكفار ـبعد عقد الصلح والمعاهدةـ وهم في أمان، ودعوهم إلى الله تعالى، ودخل في سنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك، بل أكثر، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة في عشرة آلاف، وهذا ما بشر به صلى الله عليه وسلم أصحابه أثناء رجوعه إلى المدينة المنورة بعد عقد المعاهدة والصلح حينما قال: (أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (الفتح:1) رواه البخاري. قال ابن كثير في تفسيره لسورة الفتح: "نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة".

وكان أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه يقول: "ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبيّة، ولكن الناس يومئذ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون، واللَّه لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند النحر يقرّب إلى رسول اللَّه بُدنة، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينحرها بيده! ودعا الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه! وأذكر إباءه أن يقرّ يوم الحديبيّة بأن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم! وإباءه أن يكتب أن محمداً رسول اللَّه! فحمدت اللَّه الّذي هداه للإسلام. فصلوات اللَّه وبركاته على نبيّ الرحمة الّذي هدانا به، وأنقذنا به من الهلكة". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية" .

www.islamweb.net