أئمة الطريق الثالث

27/09/2016| إسلام ويب

الموقع التاريخي للأئمة الأربعة يلهم سنّة التعايش الرشيد التي كرّسها هؤلاء الأعلام، كانوا امتداداً لمن سبقهم، واتفقوا على تعظيم أسلافهم من المؤمنين، وأثنوا على الصحابة والقرابة وأمهات المؤمنين أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- الطاهرات، متمثلين قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(الحشر:10).

ولم يسمحوا للخلاف الذي جرى بين السالفين أن يكون أداة لشتم التاريخ، والكفر بالأسلاف، والتشكيك في رجال الصدر الأول.

ولذا اتفقوا على تجنّب محاكمة المختلفين، أو الدخول بينهم إلا بخير. وتعايشوا مع الاختلاف الجاري في دوائرهم الأربع الفقهية، وما وراءها بروح التقبّل والهدوء، ولم يسمحوا أن يكون انتشار علومهم سبباً للصدام والتعارك. بل لعلهم أصّلوا مبدأ التعايش مع المتغيرات السياسية والاجتماعية من حيث تعاملهم معها، ورسمهم للخطة الملائمة إزاءها.

والملحوظ أن أيّاً منهم لم يقبل ولاية رسمية للقضاء أو المظالم أو غيرها، وفي الوقت ذاته لم يكن حزب معارضة، ولم يسند أو يدعم الخارجين على سلطة الدولة، وإن كانوا جميعاً تعرّضوا للاتهام بشيءٍ من ذلك، وامتُحنوا فيه، إلا أن السّياق يدلّ على أن ذلك لم يكن صحيحاً، ولكنهم كانوا ضحية الفكرة التي ترى أن من لم يكن معي فهو ضدي، فكان استقلالهم الفكري سبباً في الاشتباه وكثرة الوشاية وسوء الظن، بل وتفسير القول أو الفتوى تفسيراً سياسياً.

وهم في حقيقة الأمر يمثلون الطريق الثالث بين مجموعة السلطة ومجموعة المعارضة، وهذا يمكنهم من أداء دور ريادي وعظيم في حفظ التوازن داخل المجتمع بين مكوناته المختلفة، من سلطة وشعب، وتيارات فكرية وعلمية، وانتماءات عرقية وقبلية، واختلافات مذهبية.

إن وقوفهم على مسافة واحدة من هذه المكونات، واحتفاظهم بقدر من الاتصال يسمح بأن يكونوا نقطة توازن وانضباط؛ تحفظ المجتمع الإسلامي من الانخراط في مزيد من الصراعات الداخلية أو التمزق وانفراط العقد.

وهذه مهمة يُحتاج إليها اليوم أشد الحاجة في ظل اتّساع الفجوة وضعف ثقافة التعايش بين الناس مما يحضّر لنزاعات تستعدّ للظهور كلما آنست ظروفاً تخدمها.

فوجود مرجعية علمية ودوائر وسيطة تعزز قوة الضعيف وتنهنه اندفاع القوي، وتتوسط في المعضلات، وتنشر الوعي الضروري للحياة والفهم والتسامح، وتشجّع على العدل وحفظ الحقوق له مما يخدم السلم الاجتماعي والأمن الوطني في أي بلد، ويحول دون ظهور تيارات العنف والغلو والتطرف في أي اتجاه.

في بلاد العالم حكومات قوية تقابلها مجتمعات قوية أيضاً، بروابطها وتنظيماتها ونقاباتها ومؤسساتها السياسية والتطوعية والاجتماعية، وهذا يجعل الشعب قوياً بحكومته، والحكومة قوية بشعبها.

ومعظم البلاد الإسلامية تفتقد هذا التوازن الضابط لمركز القوة، الحافظ للاتصال، إنها "المؤسسات الوسيطة" أياً كان عنوانها، المقبولة على نطاق واسع، رسمي وشعبي، المعنية بأداء هذه المهمة الخطيرة التي قد لا يفطن لها الناس إلا حينما تبدأ في التآكل والتفتت.

إن الاختلاف المذهبي والطائفي، بل والملّي -فضلاً عمّا دونه- ليس مؤهلاً دائماً للصراع والتطاحن، والنص القرآني الكريم يقول: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(الرحمن:10)، فداخل الدائرة الإسلامية يتم التحاكم إلى الأحوال الضابطة، والقواعد الجامعة، والضروريات الشرعية، وحين يتعذّر ذلك بسبب اتساع الخلاف وتجاوز المحكمات، وعدم القدرة على تلافيه بالحوار والمجادلة الحسنة، تبقى الدائرة الأوسع، وهي دائرة (لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، لتكون المعرفة بينكم أساساً للعلاقة، ولتتبادلوا المعارف، ولتتعاملوا بالمعروف والبر والإقساط.

وربما تلتقي مصلحتك ومصلحة مخالفك في نقطة واحدة من منافع التجارة أو الإدارة أو الصحة أو التنمية أو الصناعة أو غيرها.

ومن نافلة القول أن آراء هؤلاء الأئمة لم تكن نشازاً بالنظر إلى ما قبلها، فهي محصلة الموروث الفقهي السابق، يضاف إليه آراء واجتهادات جديدة لم يسبقوا إليها في مسائل ونوازل، بل في التأصيل والتقعيد ذاته.

وعليه فإن من الخطأ الزعم بأن أقوالهم تنسخ ما قبلها وتلغي ما سواها.

والواقع أن عمل الفقهاء الكبار في المذاهب، وإن كان يسير ضمن الإطار العام غالباً، إلا أنه لا يخلو من اختيارات تخالف المذهب، بل تخرج عن أقوال الأئمة الأربعة.

وقد تتبعت اختيارات الإمام ابن قدامة في المغني فرأيت له أقوالاً وترجيحات حسنة خالف فيها الأئمة الأربعة بعدما ساق مذاهبهم.

ومثل هذا تجده في كل مذهب فقهي، لأن أقوال الصحابة والتابعين والأئمة السابقين من فقهاء السلف ليست أقل أهمية، وفيها ثروة عظيمة، وفقه أصيل، واستنباط ممن عاصر التنزيل، وهم أهل اللغة، وقد حفظت أقوالهم كما في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومصنفات ابن المنذر، وكثير من السنن؛ كسنن سعيد بن منصور والبيهقي، والذي يقرأ متغيرات الحاضر الضخمة قد يرى أن توسيع دائرة الاختيار من أقوال السلف خارج الأربعة يبدو أمراً ملحاً.

إنها اجتهادات جوهرية لرجال القرون المفضلة، المنصوص على خيريتها، وهي تضيف مادة جديدة وهائلة للفقه الإسلامي، وتحقق له التنوع والاتساع.

ولئن كان عصر من العصور لا يحتاج إلى استدعاء تلك الأقوال والاعتبار بها، والبناء عليها، فمن اليقين أن هذا ليس هو عصرنا الذي نعيش فيه.

وقد صنف ابن رجب الحنبلي كتاباً سماه: (فضل علم السلف على علم الخلف)، ولئن كان العلم خير كله، فإن فضل علم السلف يجري على الأصول والفروع معاً، وخاصة أن فقه الصحابة بالذات كان في الفترة الأولى التي ظل فيها الفقه مقترناً بالحياة بتنوعها وحيويتها وثرائها، وشهدت فقهاء عظاماً؛ كأبي بكر وعمر ومعاذ وعلي وابن عباس وابن مسعود وغيرهم -رضي الله عنهم- أجمعين.

www.islamweb.net