الخلق الإلهي (1)

22/01/2017| إسلام ويب

إنْ وجدنا مخلوقًا يشبه البطة ورائحته كرائحتها وصوته كصوتها وملمسه كملمسها ويسبح كسباحتها، فسيكون عبء الدليل Burden of Proof على من ينفي أنَّ هذا المخلوق بطة. يحدث الشيء نفسه في أنظمة الكائنات الحية المعقدة بشدة ونرى من خلالها أنَّ عبءَ الدليل يقع على من يريدون نفي الصنع المتقن والخلق الإلهي –التطوريون-.

وقد أصبح من المعتاد أن يطلب منّا هؤلاء التطوريون الصبر إلى حين يستنفدون كل جهودهم في نفي الاحتمالات اللامتناهية للخلق الإلهي.
لكن لا يفترض بالعلم أن يعمل بهذه الطريقة! -1-

ويعتبر أي نظام علامة على الصنع المتقن إنْ احتوى على تعقيد لا يمكن تبسيطه، بحيث إذا تم تبسيطه تفسد الوظيفة الأساسية لهذا النظام، فهنا يُعد التعقيد علامة على "الصنع المتقن".

كمثال على ذلك؛ المصباح الكهربي فهو يتكون من: فتيلة، وسلك من الرصاص يوصل الكهرباء للفتيلة، وغاز خامل يحمي الفتيلة ولا يتعامل معها ولا مع الكهرباء، وزجاج يمنع دخول الهواء أو خروج الغاز الخامل وإلا لاحترقت الفتيلة، وقاعدة المصباح وهي التي توصل المصباح بالدواية وتكون مسارًا للتيار الكهربي.

هنا المصباح الكهربي نظام به تعقيد لا يمكن تبسيطه، وبالتالي ففيه دلالة عقلية أولية تفيد الصنع المتقن، والذي ينفي الصنع المتقن عن المصباح أو يفترض ظهوره بالصدفة هو المطالب بالدليل على ذلك!

فالذي صَنع المصباح يعلم تمامًا معنى الكهرباء ومساراتها وفائدة المصباح وحساسية الفتيلة، ولذا فإن وجود المصباح دليل مباشر على أن له صانع متقِن، وليس ضرب عشواء لمجرد أن هناك مصابيح مختلفة في شكلها تمامًا عنه!

وبنفس الدرجة من الاستدلال العقلي نجد بعض الزهور مثل زهرة الأوركيدا Orchidaceae تتخذ صورة مطابقة تمامًا لأُنثى النحل، فيأتي ذكر النحل محاولاً الإقتراب من أُنثاه ولا يعرف أنها زهرة، فتلتصق حبات غُبار الطلع في رأسه ويقوم بالعملية نفسها عند أوركيدا أخرى فيقوم بالتلقيح المثالي دون أن يدري! -2-

بل إن الأكثر إثارة لكل عاقل أن زهرة الأوركيدا تُفرز نفس الرائحة الخاصة بأُنثى النحل – فيرميون أنثى النحل fermions- وليس شكلها فقط، كل هذا وهي كائن نباتي لا ينظر ولا يتدبر ولا يعي من أمره شيئًا، ورغم هذا التحدي المبهر في زهرة الأوركيدا فإنها تعيش في توازن بيئي مثالي مع غيرها من الكائنات، فلا تطغى عليهم ولا يطغون عليها، فسبحان فاطر الخلق مودع عجيب الصنع في كل شيء!

أليس شكل زهرة الأوركيدا المطابق لأنثى النحل ورائحتها المطابقة لرائحة أنثى النحل منظومة معقدة تقوم بوظيفة متخصصة–التلقيح- وفي هذه المنظومة دلالة مباشرة على الصنع المتقن؟

أضف إلى ذلك أن: بعض الزهور التي بلا رحيق جاذب للحشرات، تأخذ شكل أُنثى الدبور تمامًا كبديل للرحيق، فيأتي ذكر الدبور لتلتصق به حبوب اللقاح دون أن يدري، ويذهب لزهرة أخرى ليكمل مهمته في التلقيح!

هذه الزهور إما تظهر فجأةً ومعها الدبابير ولها نفس شكل أُنثى الدبور أو لا تظهر.
ألا يعد هذا تعقيدًا ودلالةً مباشرة على الصنع الإلهي المتقن؟

ولاحظ أن: خواص الفكر والإدراك واتخاذ قرار هي خواص في قمة العقلانية والحكمة والتدبير، وحتى لو افترضنا أن هذه الزهور تدرك أو تعقل فهي لن تُغير من أمر شكلها ولا رائحتها شيئَا!

فما بالنا بحساب الزمن – زمن التلقيح – والشكل والحجم الخاص بالحشرة التي ستُقلد شكلها، وإنتاج غبار طلع بالكمية الكافية، وحساب خاصية التصاقه بجسد الحشرة، وضغط كل المورثات في حبة غبار الطلع وتحصينها بجدار سميك مع خفة الوزن في نفس الوقت!

كل هذه الحسابات هي آيات للعاقل يخشع بسببها للخالق العظيم المُبدع {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (١٦٤) سورة البقرة.

{صنع الله الذي أتقن كل شيء} (٨٨) سورة النمل.

فقد ظهرت هذه الكائنات ذات المنظومات التبادلية المعقدة منسجمةً مع بعضها البعض منذ البدء، كدليل مباشر على الخلق الإلهي والتدبير والحكمة، لكن للأسف لا يتدبر هذه البديهيات إلا القليل {قليلا ما تذكرون} (٦٢) سورة النمل.

وحتى تشارلز داروين Charles Darwin كان يهتز لهذا التصميم الإلهي المدهش للمنظومات الحية ثم ينسى أو يتناسى، وعندما سأله دوق آرغيل جورج كامبل George Cambell قبل موته بعام عن أدلة التصميم العجيبة في تزاوج زهرة الأوركيدا قال داروين: "هذه الفكرة كثيرًا ما تعصف بعقلي، ثم هز رأسه وأضاف: وفي أحيان أُخرى تتلاشى." -3-

أضف إلى ذلك أن أدنى تعقيد في أية منظومة هو في الأصل مرتبة زائدة على مجرد الوجود، فلو وجدت حجرًا منتصبًا –مثل أحجار ستونهنج Stonehenge بجنوب انجلترا- فلن تتردد في إثبات الصانع- لمجرد انتصاب الحجر، لأن الانتصاب مرتبة زائدة على مجرد وجود الحجر، فما بالك بالتعقيد والتصميم والصنع المتقن؟

والمتدبر في شأن الخلق يجد أنه لا تخلو منظومة على الإطلاق من قدرٍ من التعقيد، وهنا يجبُ على العقل العملُ مع الدليل المتوافر –الخلق الإلهي-، فهو الطريق الأقصر والأنسب لتحليل ظاهرة التعقيد!

ومجرد المراوغة بحجة أن المستقبل قد يُثبت حججًا واعدة، هذا نوع من الكفر مناطه فجوة مستقبلية لا نعرف عنها شيئًا، وهذا النوع من الكفر يشبه كفر فرعون وإن كان مناط كفر فرعون فجوة ماضية لا يعرف فرعون عنها شيئًا، وإن كان النوعان من الكفر يتعادلان في إيقاف العقل عن العمل!
{قال فمن ربكما يا موسى (٤٩) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (٥٠) قال فما بال القرون الأولى (٥١)} سورة طه.

فليس من العقل في شيءٍ الاحتكام إلى أسباب مادية غير معروفةٍ أو طرق غير مكتشفة لمنع تفسير الظاهرة في إطارها الدلالي على الخالق، إنّ هذا محض تحكم لا أكثر، وتعطيل لوظيفة العقل، وإذا كنّا عند هذه المرحلة ومع هذه المعطيات الساطعة نعاند الإيمان بالخالق فعند أي مرحلةٍ نُسَّلِّم له؟
وتحت أي بندٍ نخلع عن أنفسنا ربقة الكفر به؟

هل عند خلو المُعارِض؟

فالكفار يُعلِّقون المُعارِض بالمستقبل الذي لن نكون فيه، وكفار ذلك المستقبل سيُعلِّقون المُعارِض أيضًا بمستقبلٍ آخر. وإنك لن تجد بين المتفكهين مَن يتفكه كما يتفكه المستقبل بهؤلاء!

{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (١٠) سورة الملك.

وحين كتب الملحد اللاأدري كارل ساغان Carl Sagan روايته الشهيرة " تواصل Contact " كان يرصد في هذه الرواية حجة عقلية أولية A-Periori دون أن يدري، وهي أن: العقل يدرك تمامًا لزوم الصانع بمجرد رصد تعقيد أولي بسيط!

وحينها لا يجادل العقل في وجود الصانع بمجرد رصد التعقيد بل يُسلِّم مباشرةً!

ففي هذه الرواية يكتشف مجموعة من علماء الفضاء أثناء بحثهم عن ذكاء خارج الأرض SETI Search for Extraterrestrial Intelligence سلسلة طويلة من الأرقام الأولية قادمة من الفضاء الخارجي، ولأن التسلسل يفيد قيمة رياضية فلا يمكن ظهوره بالصدفة، وبناءً على ذلك اعتبر علماء الفضاء أن هذا دليلاً مقنعًا على وجود حضارة عملاقة في الفضاء الخارجي تحاول التواصل معنا! -4--وفي واقع الأمر نحن حتى الآن لم نعثر على شيءٍ من هذا القبيل، فهذه رواية لا أكثر-.

لكن الشاهد من هذه الرواية أن الملكات العقلية الأولية تُقر بحجة التعقيد والنظام كدلالة على الصانع المتقِن.

فمجرد سلسلة من الأرقام الأولية لها قيمة بسيطة أفادت وجود حضارة عملاقة، فكيف ننسب ثلاثة مليارات قيمة رياضية داخل كل خلية من خلايا الإنسان –الجينوم يتشكل من 3 مليار قاعدة نيتروجينية منضبطة بترتيب على أحسن تقويم داخل كل خلية من خلايا الإنسان- في قمة التعقيد إلى العشواء؟

كيف ننسب تعقيد منظومة تلقيح زهرة الأوركيدا إلى الصدفة؟

كيف نتنكر لبديهيات توجد في كل منظومةٍ حيةٍ حولنا أشد تعقيدًا بملايين المرات من رسالة الحضارة الذكية، ونزعم أن الأولى خبط عماء والثانية حضارة عملاقة؟

إنها قمة السذاجة إن استطعنا ابتلاعها ابتلعنا بعد ذلك كل شيء!

{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} (١٢) سورة محمد.


هوامش المقال
-------------------------
1- تصميم الحياة، د.ويليام ديمبسكي ود.جوناثان ويلز، ترجمة د.مؤمن الحسن وآخرين، دار الكاتب ص226 بتصرف.
2- http://www.nhm.ac.uk/nature-online/life/plants-fungi/bee-orchids/
3- “‘Well, that often comes over me with overwhelming force; but at other times,’ shaking his head, ‘it seems to go away.’”
Charles Darwin, quoted in Duke of Argyll, “What Is Science?” Good Words 26 (1885): 244.
4- Sagan, Carl. Contact. New York: Simon and Schuster, 1985.

 

www.islamweb.net