من مآثر الحضارة الإسلامية

27/07/2017| إسلام ويب

لقد كانت الحضارةُ اليونانية ثمرة للحضارتين المصرية والبابلية، وإن امتازت كل حضارة بوجهةٍ خاصة؛ فالحضارةُ اليونانية اتجهت نحو السياسة والفنون، والحضارة المصرية اتَّجهت نحوَ العمل والدِّين والخلود، وكذلك اتجهت الحضارة المسيحية في العصور الوسطى، فلما نشأت الحضارةُ العربية الإسلامية، اتجهت نحو الدِّين والعِلم والفلسفة، واحترام الإنسان والمساواة بين الناس، والتمسُّك بالمُثل العليا، وكرامة الفرد.
ونحبُّ أن نردَّ على رأيٍ يقول بأن العربَ لم يعرفوا الاستقرار؛ لأنهم كانوا شعبًا رعويًّا متنقلاً؛ فنحن نعرفُ أنه كانت هناك مدنٌ كاملة عرفت الزراعة والاستقرار، ونشأت فيها حضارات كبيرة، مثل: مملكة سبأ قديمًا، وكثير من مدن الجنوب الغربي، ثم مدن أخرى، مثل: مكة، والطائف، ويثرب، وينبع، ومِنًى، وخَيْبَر في شبه الجزيرة العربية، وعاش فيها أناسٌ منهم الحضَرُ المستقرُّون الذين عاشوا على الزراعةِ في الأراضي الخصبة.

ومنهم البُداةُ الرُّحَّل الذين عاشوا على الرعيِ في السهول والأراضي الصحراوية، بل إن حياةَ الرُّعاة كانت تستقرُّ لشهور طويلة، وفي أماكنَ معروفة لا يعدمون فيها التجمع؛ فهم لم ينفصلوا - بتنقُّلهم - عن الحياة، ولم ينسَوْا عاداتِهم وتقاليدهم، بل يمكن القول: إن هذا التنقلَ أكسَبهم خيالاً واسعًا، ورُؤًى شاملة، أوقفَتْهم على الجديدِ باستمرار، فليس التَّرحال إذًا سُبَّةً في جبينهم.
ونحن نعرف في التاريخِ الأدبي أن شِعر الرعاة في اليونان القديمة نفسِها كانت له مكانتُه، ونعرف أن شاعرًا مِثل "ثيوكريتوس" (315 -؟ ق.م)، كان أولَ مَن ابتَكر شِعر الرُّعاة كفنٍّ مستقلٍّ في الأدب اليوناني، وهو يُشبه المواويل الريفية، وكانت مكانتُه لا تقلُّ عن مكانة "هوميروس" وغيره من شعراء اليونان، وقد احتوى شِعرُه على نماذجَ ملحمية وقصصية ومسرحية مليئة بالحركة والحيوية، وفي نظيره في الأدب الرعوي العربي نجد العديدَ من القصائد والملاحم المطوَّلة؛ مما وصلنا قبل التدوين وبعده، وما وصلنا إلا أقلُّ القليل، ومنها المعلَّقات، وألوان الرجز، والحُداء، وأناشيد الحروب في الشجاعة، والكرم، والرثاء، والزجل.

وهنا نحب أن نشيرَ إلى ملاحظة هامة ترد على من يقول بأن الحياةَ في القبيلة العربية تميَّزت بالفردية؛ ذلك أن تلك الحياةَ لم تعرف الأفرادَ بل الجماعات، فلا فواصلَ بين الفرد والقبيلة، ولا كيان للفرد وحيدًا، وكان الشاعرُ هو المعبِّرَ عن قبيلته، المتكلِّمَ باسمها، المفاخر بمآثرها، المدافع عنها، ثم من المفيد أن نذكر - ونحن في مجال الكلام عن استقرار العرب وبداوتهم - أنه كان لهم في القرن الثاني الهجري - أو الثامن الميلادي - مُلكٌ واسعُ الأرجاء، وحضارة منتشرة، ظهَرت فيما أخَذوه أو ترجموه من كتب اليونان والفرس إلى العربية، وفي الجامعات والمعاهد والمكتبات، والمراصد الفلكية وغيرها من مظاهر العِلم والتقدم، وقد استمرت هذه الحضارة مزدهرةً لقرون طويلة لم يطمِسْها تقلُّص المُلك، أو توقُّف الرَّكب، أو أباطيل الخصوم، أو دعايات الأعداء.

ومن المفيد أيضًا أن نذكرَ أن حياة القبيلة العربية - مستقرةً كانت أو متنقلة - كانت تتميزُ بنظام واتساق عجيبين، وتماسك شديد يستندُ إلى نسَبِها المشترك، ومجدِها الماضي، وكان لها رئيسٌ يعاونه مجلسٌ من شيوخ القبيلة، ولم يكن فيها نظامٌ وراثيٌّ بالمعنى الدقيق؛ إذ السيادةُ فيها للجدارة الشخصية، وقد يحدُثُ تنافسٌ يؤدِّي إلى انقسامٍ وحروب داخلية، أو بين قبيلة وقبيلة؛ كالذي حدث في حرب البسوس بين "بكر" و"تغلِب"، وحرب داحس والغبراء بين "عبس" و"ذُبيان"، وكان فيها تلك الملاحمُ الحربية التي نقلت صورةً صادقة لتلك الخصومات والحروب، ولا ننسى أن الشَّاعرَ العربي كان يتمتعُ بمنزلة اجتماعية رفيعة، تبتهج به القبيلةُ حين ينبُغُ، وتحلُّه فيها مكانةً بارزة، ويذكُرُ الرَّحَّالة الألمانيُّ "شوينفرت" أن المهاجرينَ منذ خمسةِ آلاف سنة كانوا يرَوْن المروجَ الخضراء والبقاع المخصبة في تنقُّلهم بين "البحرين" و"وادي اليمامة"، ومن اليمن إلى البحرين، وإلى ما بين النهرين وبادية الشام، ولا تزال بقاعُ اليمامة إلى اليوم تشتهر بالمراعي الواسعة، والعيون الغزيرة، والمُروج المعشِبة التي تخلَّفت من أقدم العصور.

ومن الآثارِ التي لاحَظها ذلك الرَّحَّالة القمحُ والشعير، والماعز والضَّأن والماشية، وقد وُجِدت في حالتها الآبدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصرَ والعراق، وقد بلغت الحضارةُ العربية ذروة استقرارِها أيامَ العباسيِّين حين اهتمُّوا بالزراعة والفواكهِ، وبالصناعة والتجارة، وقد نظَّموا طُرُق القوافل بين الصين والشام، وفي ثنايا شِبه الجزيرة العربية، وبين البحر الأحمر والنيل، وكانت الطرقُ آهلةً بتلك القوافل على مدار السَّنة، وأنشؤوا الأساطيلَ التِّجارِية التي وصلت في سَيرها إلى الهند والصين، وسيلان والملايو في الشرق، وفي الغرب إلى طنجة وروسيا والحبشة.
ولا شك أن هذه الرِّحلاتِ التِّجارِيةَ صاحَبها بعضُ الشعراء والكتَّاب ممن مارَسوا التِّجارة، وسجلوا - فيما سجلوا - مشاهداتِهم وملاحظاتهم، مثل: "القاسم بن خرداذبه" في كتابه: "المسالك والممالك"، وياقوت الحموي في "معجم البلدان"، وقد عرَف العرب - نتيجة لهذا الاستقرار، والمبادلات التجارية - المزيدَ من التَّخطيط والتنظيم، ووجَد الكاتب والشاعر والقاصُّ من الوقت ما ساعده على التجويد والتأمُّل، ووجَد من اهتمام الدولة بالتقدم العلمي والفكري ما دفَعه إلى التفرُّغ في كثيرٍ من الأحيان لحياةِ البحث والمعرفة.

كذلك احتوى الشِّعر العربي على قدرٍ من الحِكمة، وهي حقيقةٌ موضوعيَّة يُعمِّم بها الشاعرُ حُكمَه على الناس؛ فالعقل - بذلك - كان مِلاكَ الشِّعر العربي خاصة، والفكر العربي كله بوجه عام، ويكفي أن نقول: إن الملاحمَ العربية سبَقت الملاحم اليونانية بأجيال، وأن هوميروس كان متأثرًا بما نُقِل إليه من آثار بابلية، هي في الأصل ترجعُ إلى نتاج العقلية العربية، وهي عقليةٌ ثاقبة تتغلغلُ إلى الأعماق والأطراف والحواشي، وتُقدِّس حريةَ الفكر، وتبتدع من العلوم - النظرية والعملية - ما تمتلئُ به آثارُ "جابر بن حيان" في علم الجَبر، و"الخُوارِزمي" في الحساب، "وابن سينا" في الطب والفلسفة، وابن الهيثم في البصريات، وغير ذلك، بل يكفي أن نقولَ: إنه بفضل إنتاج العقلية العربية توصل "هنري" الملاَّح "وفاسكو دي جاما" "وكولومبس" إلى ارتيادِ المحيطات، ودرس "أفلاطون لوبيزون" وفبروناتشي علوم الرياضيَّات والجبر واللوغاريتم، وبحث "ألبيرت الكبير" و"توماس الين" في فلسفة الفارابي.
وفي الوقتِ الذي أنشد فيه الشعراءُ "التروبادور" أغانيهم في إسبانيا العربية، وصرح "روجر بيكون" بأن وجودَ الفكر الأوروبي والعلم الأوربي كان مستحيلاً لولا وجودُ المعارف العربية، ولقد اتَّسمت العقليةُ العربية بالإنسانية الشمولية التي تحلِّلُ مشاعرَ الإنسان في تعميق ووعي، واتسمت بالطبيعةِ والواقعية، فلم تلجَأْ إلى التهويلِ والتضخيم والمبالغة.

ومما يروى: أن أعرابيًّا سُئِل: لماذا آمنتَ بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدًا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول: لا تفعل، وما رأيته يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول: افعَلْ"، ولا شكَ فقد نزل الإسلامُ هاديًا للعقل في جميع الأمور، ونزَل القرآن الكريم يحثُّ على التفكيرِ العقلي؛ كما في قوله تعالى: ( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) [آل عمران: 118]، وقوله تعالى: ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) [العنكبوت: 43].. إلخ.
ويقول محمد إقبال في كتابه: "تجديد التفكير الديني في الإسلام":
"لقد كانت أوربا بطيئة نوعًا ما في إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي، وليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاعُ أصلِها إلى مؤثِّرات الثقافة الإسلامية أو العقلية العربية بصورةٍ قاطعة، وتتبدَّى هذه النواحي في كلِّ فروع العِلم والبحث العلمي، وطرق التَّجرِبة، والملاحظة، والمقاييس التي أدخَلها العربُ إلى العالَم الأوروبي"، ولقد توصَّل العربُ إلى هذه المرحلة التَّجرِيبية التطبيقية من العلمِ ، بعد مرحلةٍ من النظر والتخيُّلِ، أو لعلهما مرحلتانِ متجاورتان متساوقتان، وبفضل هذا الخيال فتحت مغاليق العلوم والفنون...."
تلك بعض ظواهرِ الحضارة العربية، ومآثرها على حضارة الغرب، وبعض سماتها الذاتية التي تدلُّ على أنها حضارةٌ أثمرت، وما زالت تُثمِر أرقى ألوانِ الفكر البشري.
 

www.islamweb.net