فوائد من دُخُول أَبِي بَكرٍ في جِوَارِ ابْن الدُّغُنَّة

22/01/2023| إسلام ويب

العرب في الجاهلية كانوا يدافعون عن الجوار، ويَمنعون مَنْ حالَفهم أو استجار بهم، ممَّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، بل ويَبذُلون المُهَج والأرواح، ويشنُّون الحروب والغارات انتصاراً وحماية لمن حالَفهم أو استجار بهم وأجاروه، مُحقًّا كان أو مُبْطِلاً، وكانوا يقولون في معرض الفخر والثناء: فلانٌ منيع الجار، حامي الذِّمار (ما ينبغي حياطَتُه والذَّوْد عنه، كالأهل والعِرْض). غير أنهم كانوا أحياناً يُسرِفون في هذا الجوار إسرافًا يُجاوز حدود العدل والإحسان، ويطرح بهذه الَمْنقبة الكريمة في متاهة الظلم والعُدوان. فلمَّا جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبُعِث ليُتمِّم مكارم الأخلاق، أقرَّ ـ فيما أقر من مكارم الأخلاق ـ الجوار، في غير بغي ولا عُدوان.. وقد ظهر هذا الجوار في مواقف كثيرة من السيرة النبوية، ومنها جوار ابن الدغنة لأبي بكر رضي الله عنه.

على الرغم من مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قريش إلا أنه كان من الصحابة الذين خرجوا مهاجرين إلى الحبشة في المرة الأولى، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "عن عائشة رضي الله عنها حين ضاقت عليه (على أبي بكر) مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهُر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوما - أو يومين - لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش.. فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا عليَّ، قال: ولِمَ؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري، فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير".

بَعْدَ أن رجع أبو بكر رضي الله عنه مع ابن الدغنة ما لبث أن ردَّ عليه جواره وحمايته له، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (فلما ابتُلِيَ المسلمون خرج أبو بكرٍ مُهاجراً نحوَ أرضِ الحَبَشة، حتى إذا بَرْكَ الغِمَادُ لَقِيَه ابنُ الدَّغِنّة، وهو سَيِّد القارَّة (قبيلة تشتهر بالرمي)، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أَسِيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابنُ الدَّغِنَّة: فإن مِثْلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخْرَج، إنك تَكْسِب المعدوم، وتَصِل الرحِم، وتَحْمِل الكَلَّ، وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائِب الحَقِّ، فأنا لك جارٌ، ارجِع واعبدْ ربَّك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابنُ الدَّغِنَّة، فطاف ابن الدغنة عشيَّة في أَشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكرٍ لا يَخْرُج مِثْله ولا يُخْرَج، أَتُخرِجون رجلًا يَكْسِب المعدوم، ويَصِل الرحِم، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضيف، ويُعين على نوائبِ الحقِّ، فلم تكذبْ قريشٌ بِجِوار ابن الدَّغِنَّة (لم ترد عليه قوله في جواره وأمانه لأبي بكر)، وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبا بكر فليعبدْ ربَّه في دارِه، فلْيُصَلِّ فيها ولْيَقْرَأْ ما شاء، ولا يُؤْذِينا بذلك ولا يَسْتَعْلِن به، فإنا نَخْشى أن يَفْتِن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابنُ الدَّغِنَّة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبدُ ربَّه في دارِه، ولا يستعلِن بصلاته ولا يقرأُ في غير داره، ثم بدا لأبي بكرٍ، فابتَنَى مسجداً بفناءِ دارِه، وكان يصلي فيه ويقرأُ القرآن، فيَنْقَذِف عليه نساءُ المشركين وأبناؤُهم، وهم يَعْجَبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بَكَّاء، لا يَمْلِك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشرافَ قريشٍ من المشركين، فأرسلوا إلى ابنِ الدَّغِنَّة فقَدِم عليهم، فقالوا: إنا كنا أَجَرْنا أبا بكر بجِوارِك، على أن يعبدَ ربَّه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتَنى مسجدًا بفِناء داره، فأَعْلَنَ بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خَشِينا أن يَفْتِن نساءنا وأبناءنا، فانهَه، فإن أَحَبَّ أن يقتصرَ على أن يعبدَ ربَّه في دارِه فعل، وإن أَبَى إلا أن يُعْلِن بذلك، فَسَلْه أن يَرُدَّ إليك ذِمَّتَك، فإنا قد كَرِهنا أن نُخْفِرَك (تنقض عهدك)، ولَسْنا مُقِرِّين لأبي بكر الاستِعلان .. قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغِنَّة إلى أبي بكر فقال: قد عَلِمْتَ الذي عاقَدْتُ لك عليه، فإما أن تقتصرَ على ذلك، وإما أن تُرْجع إلَيَّ ذِمَّتِي، فإني لا أحب أن تسمعَ العرب أني أُخْفِرْت في رجلٍ عَقَدْتُ له، فقال أبو بكر: فإني أَرُدُّ إليك جِوارَك، وأَرْضَى بجِوارِ اللهِ عز وجل) رواه البخاري.

في هذا الموقف من هجرة أبي بكر رضي الله عنه إلى الحبشة، ثم رجوعه ودخوله مكة في جوار ابن الدغنة، ثم رده لهذا الجوار فوائد كثيرة، منها:

ـ ينبغي أن يكون أمر الدين عند المسلم أهم من ملازمة الأهل والأحباب والأرض التي وُلِد فيها، فإذا خاف المسلم على دينه وعجز أن يقيم شعائره، أو خاف على نفسه الفتنة، فعليه أن يبحث عن أرض أخرى، يأمن فيها على نفسه ودينه، ولذلك قال أبو بكر لما سُئِل من ابن الدغنة عن سبب هجرته قال: (فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي). ومنها: ما كان عليه بعض كفار العرب من الإنصاف وشهادة الحق وعدم الخيانة، فهذا سيد القارة قد أثنى على أبي بكر رضي الله عنه أحسن الثناء وأجمله، والمشركون من أهل مكة أبوا أن ينقضوا العهد مع سيد القارة بأمانه لأبي بكر وقالوا لابن الدغنة: (فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك) أي: نغدر بك. ويتفرع عليه: أن المسلمين أولى بالوفاء والالتزام بالعهود من غيرهم، وقد قال الله تعالى آمراً بالوفاء بالعهد: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها}(النحل:91)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن عهده مع المشركين في الحديبية: (وإنا لا نغدر بهم). وفي قبول أبي بكر رضي الله عنه لجوار ابن الدَّغِنَة إشارة إلى أنه ليس هناك ما يمنع من قبول جوار وحماية المشرك ما دام أن هذا لا يصحبه أي تنازل في الدين، ومع ذلك فالمسلم قد يردُّ هذه الإجارة إذا شعر أنها تُضَيِّق عليه في دينه أو في الدعوة إليه.
ـ ومن فوائد موقف أبي بكر في رده جوار ابن الدغنة: علم الكفار بما للقرآن من أثر عجيب على قلوب وعقول سامعيه، مما جعلهم يخافون على أهليهم وذويهم من سماع القرآن، ولذلك قالوا لابن الدغنة: (مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره وليقرأ ما شاء ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا)، ومن سمع منهم قراءة أبي بكر رضي الله عنه للقرآن بقلب وعقل مقبل أعجب به غاية الإعجاب، وقد جاء في الحديث: (ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه).

قال ابن بطال في شرحه لحديث وقصة جوار ابن الدغنة لأبي بكر رضي الله عنه: "قال المهلب: هذا الجوار كان معروفاً بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبىَّ عليه الصلاة والسلام، ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففى هذا من الفقه أنه إذا خشى المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضى بجوار الله وجوار رسوله - عليه الصلاة والسلام - وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسباً على الله وواثقاً به، فوفَّى الله له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن الله لنبيه فى الهجرة، فخرج أبو بكر معه، ونجاهما الله تعالى من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده تعالى من إظهار النبوة وإعلاء الدين، وكان لأبى بكر فى ذلك من الفضل والسَبْق فى نصرة نبيه وبذل نفسه وماله فى ذلك ما لم يخف مكانه، ولا جهل موضعه".
وقال ابن حجر: "قوله: (بكَّاء) بالتشديد أي كثير البكاء، قوله: (لا يملك عينيه) أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه، وقوله: (فأفزع ذلك) أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام.. قوله: (ذمتك) أي أمانك له، قوله: (نخفرك) بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك يقال خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به، قوله: (ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان) أي: لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه، قوله: (وأرضى بجوار الله) أي أمانه وحمايته، وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين، وقوة يقين أبي بكر".

مع ما في قصة هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من فوائد ودروس، فإنها أظهرت منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه، وهي وصفه بهذه الصورة التي وصفه بها ابنُ الدَّغِنَة حين قال لقريش عن أبي بكر: (أَتُخرِجون رجلًا يَكْسِب المعدوم، ويَصِل الرحِم، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضيف، ويُعين على نوائبِ الحقِّ)، وهي نفس الأوصاف التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي عليه، وذلك على غير التقاء أو اتفاق بين خديجة رضي الله عنها وابن الدغنة، ولم يوصف بهذه الصفات مجتمعة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وفي ذلك منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه. وقد عَلِم الله سبحانه ما في قلب أبي بكر رضي الله عنه من حُبٍّ لرسول لله صلى الله عليه وسلم، فلم يُرِدْ أن يجعله يشعر بألم بفراقٍ طويل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا هاجر إلى الحبشة، وأبدله الله عز وجل بالهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة .

www.islamweb.net