دعوة إلى إخفاء الطاعات

09/10/2018| إسلام ويب

في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. والذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله].

وفي حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فأغلقت عليهم باب الغار فقاموا يتوسلون إلى الله بأفضل أعمالهم.. أعمال أخلصوا فيها لله كانت بينهم وبينه لم يسمع بها الناس ولم يضرب لها الطبل.
رجل يبر والديه في ظلام الليل، ورجل يحسن إلى عامل عمل عنده ثم ذهب وترك أجره، ورجل انفرد بامرأة حتى قدر عليها فذكرته بالله فقام وتركها مخافة الله تعالى.

ومن هذا الباب أيضا ما جاء في حديث الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى. والذي رواه النسائي وغيره عن أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَلَاثَةٌ يَبْغُضُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَهُ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي، وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ].

السر والخفاء
وحينما ننظر إلى الجامع لهذه الأعمال بعد الإخلاص تعالى نجده الخفاء والسر، فهي أعمال خفية لا يكاد يطلع عليها إلا صاحبها أو هو ومن فعلت معه، ولم يعرف بها أحد من الخلق.

فعبادة السر وطاعات الخفاء أجل القربات، وأعظم ما تفرج به الكربات، وتسمو به الدرجات وتكفر به السيئات.. وهي زينة العبد في خلوته، وزاده من دنياه لآخرته ودار كرامته.

عبادة السر وطاعة الخفاء: دليل الصدق، وعنوان الإخلاص، وعلامة الإيمان وحب الرحمن؛ فلذلك لا تكون إلا من صاحب قلب ملأ حب الله سويداءه، وعمرت الرغبة فيما عند الله أرجاءه، فأنكر نفسه وتجرد لله لا يرجو إلا رضاه.
ولهذا كان هذا النوع من العبادة أشق ما يكون على المنافقين، وأصعب ما يكون على الكذابين، ولا مكان له عند المدعين المرائين، لأن المرائي إنما يعمل ليراه الناس، ويحسن ليمدحوه أو يحمدوه، والمؤمن الصادق إنما يريد وجه الله فيجتهد أن يخفي عمله عن المخلوقين.

جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان يسأله: هل أنا من المنافقين؟
قال: أتصلي إذا خلوت، وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم.
قال: اذهب فما جعلك الله منافقا.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142).

القرآن والحث على إخفاء الطاعة
وقد حث الله عباده على هذا النوع من العبادة ورغبهم فيه فقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف:55)، وقال في نفس السورة في الأية 205: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}.

وقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(البقرة:271)
جميل جدا أن يتصدق الإنسان وإن ظهرت صدقته ـ طالما أراد بها وجه الله لا وجوه الناس ، ولكن أجمل منها وأطيب وأنعم أن يخفيها ويعطيها مستحقيها في الخفاء؛ فهو أدعى للإخلاص وأقرب للقبول وأعلى في الأجر والمثوبة، وأقرب لتكفير الذنب، وهي في كل حال لا تخفى على العليم الخبير.

وكل دعوة في الكتاب والسنة لقيام الليل والاستغفار بالأسحار إنما هي من هذا الباب:
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر:9).

وفي الحديث الشريف الصحيح: [أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فافعل
والحث على مثل هذه العبادة في حديث رسول الله كثير أيضا.. فمنها قوله: [صدقة السر تطفئ غضب الرب]
وقال عن قراءة القرآن: [فضل قراءة السر على قراءة العلن كفضل صفة السر على صدقة العلن].

وقال أيضا: [من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل] (وهو في صحيح الجامع)
والخبء هو خبيئة من علم صالح لا يعلم به إلا الله ينفعه الله به عند محنته أو كربته، أو عند لقاء ربه في آخرته؛ فإن عمل السر رصيد ينفع عند الشدائد.

السلف وطاعة الخفاء
ومن هنا كان السلف يستحبون أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يعرفها أحد، كما حكي الخُرَيْبِي عنهم قال: "كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها".

الثابت عن سلف الأمة أنهم كانوا بتحرون أشد التحري في إخفاء العمل حتى قال بعضهم: "لا أعد ما ظهر من عملي شيئا".

محمد بن واسع :
وكان محمد بن واسع يحلف بالله كذا وكذا مرة، لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، خوفا من الرياء.

وقال الحسن البصري رحمه الله: " إِنْ كَانَ الرَّجُلَ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ جَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقِهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّرُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدُرُونَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي سِرٍّ فَيَكُونَ عَلانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(الأعراف:55).

وقال محمد بن القاسم: صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة، لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع، إلا يوم الجمعة، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف، لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، خوفا من الرياء.

وقد روت زوجته أنه كان يدخل إلى مكان في بيته حيث لا يراه أحد فيقرأ ويبكي، فإذا أراد أن يخرج غسل وجهه، واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء.
وكان يصل قوما ويكسوهم ويقول لمن يرسله إليهم: "انظر أن لا يعلموا من بعثه".

وقد كان يقول رحمه الله: "لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصّف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه".

وعلي بن الحسين
وكان علي بن الحسين يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرّبّ.
وكان يكفل مائة أهل بيت في المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل.
وعن عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين، وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب ( جرب الدقيق ) بالليل إلى منازل الأرامل.

ولو ذهبنا نستقصي في هذا الأمر لطال ولعجزنا عن ذلك.
والمقصد أن يبحث كل منا في نفسه عن مثل هذه الخبيئة فيما بينه وبين الله فإن وجدها فليحمد الله وليكثر، وإن لم يجدها فليجتهد في تحصيلها.. وأبوابها بفضل الله كثيرة:
. فابحث عنها في دمعة من حشية الله في خلوة [ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه].

. أو في صدقة خفية تخفيها عن أعين الناس أو حتى عن نفسك [ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه].

. أو في دعوات بالأسحار تناجي بها ربك لا يسمع بها سواه {والمستغفرين بالأسحار}.

. أو في ركعات في ظلمة الليل يتجافى بها جنبك عن المضجع الوثير والزوجة الحسناء والفراش المريح لتتزلف بها إلى الله {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}(السجدة:16 ).
فلما أخفوا عملهم عن الناس أخفى الله جزاءهم ليوفيهم إياه يوم القيامة، وإنما أخفاه تنويها بعظمته وكثرته.. والجزاء من جنس العمل.

. ابحث عن خبيئة في بئر تحفره لمن يحتاجه فسقيا الماء من أعظم الصدقات.

. أو في مسجد تبنيه يكتب لك كل أجر عمل صالح يعمل فيه، أو في مصحف تهديه، أو جائع تطعمه، أو مشرد تؤويه.

. ابحث عنها في أعظم أعمال البر تقضي حوائج المحتاجين، أو تكفل الأيتام والمساكين [أنا وكافل اليتيم كهاتين يوم القيامة وأشار بالسبابة والوسطى]

. أو في النفقة على الأرامل والمعوزين، أو قضاء الديون عن الغارمين والعاجزين.

والباب أوسع من أن يضيق على أحد، أو أن يغلق في وجه طارق..
فكن من هؤلاء الذين بينهم وبين ربهم أسرار وأسرار، وأخف عملك عن الناس ما استطعت فـ [إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي]. 

www.islamweb.net