صحة التفكير

25/10/2020| إسلام ويب

لو كانت شكوى المصلحين مقصورة على قلة ما لدينا من وسائط التعليم والتهذيب، ووسائل تنوير القلوب والعقول بهما لهان الأمر كثيراً؛ لأن ما نراه من قلة هذه الوسائل والوسائط سيتبدل يوماً بعد يوم بحال أرقى من التي نحن فيها، إلا أن هنالك مصيبة أدعى إلى الشكوى، وأجدر بالعناية والاهتمام، وهي تباين أثر هذه الوسائط في العقول؛ فإذا ألقى بعض الأفاضل محاضرة أخلاقية في بعض الأندية، أو إذا كتب أديب مقالة إصلاحية في إحدى الصحف تجد سامعي المحاضرة وقارئي المقالة متفاوتين في الانتباه إلى مراميها، وفهم المعاني الواردة فيهما، وربما تلقاها بعضهم بوجه، وتلقاها آخرون بضده.

وليس هذا المرض منحصراً في الأمور العلمية، كالمحاضرات والمقالات، بل إن الرجل يسمع بأذنه الخبر البسيط، أو يرى بعينه الحادث التافه، ثم يذهب في تأويلهما وروايتهما مذاهب بعيدة عن الحقيقة؛ حتى أصبح هذا الأمر من مشوهات الرأي العام الذي بدأ يتكون عندنا بشكل صريح.
قد يظن بعض القراء أن صحة التفكير والحكم، وجودة التصور والتصديق، منوطان بموهبة الذكاء. وليس الأمر كذلك، بل هما منوطان بتربية النفس من الصغر على حب الخير والحق، والتجرد عن الشرور والأهواء، والاهتمام بإدراك الأمور من كل وجوهها، وافتداء الصلاح بكل منفعة ذاتية، وربح غير مشروع.

التصور والتصديق:
ليس خطأ الناس في التصور والتصديق ناشئاً في كل الأحوال عن أسباب طبيعية كالنقص في المدارك، بل إنهم إذا صوبوا أنظارهم إلى حادثة من الحوادث يحاذرون تمثيلها في أذهانهم بشكلها الحقيقي، ويريدون أن يروها بالصورة التي توافق هوىً في نفوسهم دعت إلى وجوده المنافع الزائلة، أو العقائد الباطلة، أو اللوامع الآفلة.
يا لهذه التربية ما أشد تأثيرها على كل شيء فينا: بها نكون رجالاً صالحين في المجتمع، أو لصوصاً وقَتَلة ومتشردين، وبها نكون كرام النفوس محبين للإحسان، أو لئاماً وبخلاء ومفسدين، وبها نكون صحيحي الأجسام نشيطين مرنين،أو ضعافاً وكسولين ومتقاعسين.

حتى أفكارنا وأحكامنا أيضاً قد رفعا للتربية راية الخضوع والتسليم، فإذا تربى الفكر من الصغر على صحة التفكير نشأ صاحبه جيد التصور، سديد الحكم، محبَّاً للحق سواء كان له أوعليه، وإذا كانت الثانية بات الرجل وليس فيه من الرجولية غير اسمها.
ولا غَرْوَ؛ فإن التصور والتصديق شطرا المنطق، ولا يزال الإنسان حيواناً حتى يتمكن من إزالة سلطان الهوى عن نفسه الناطقة الممتازة بحسن التصور، وصحة التصديق.

إن أقدس عمل يصنعه الإنسان في حياته الدنيا هو أن يدرك الحق إدراكاً صحيحاً، وأن يصرح به بلا مواربة ولا خوف، وإن الرجل الذي يستطيع أن يتغلب على كل ما يعترض صحة التفكير من أهواء وخرافات ومنافع ومؤثرات، وأن يكون بعد ذلك مدركاً للحق لا تأخذه في التصريح به لومة لائم ولا مقاومة مقاوم، ثم يضيف إلى هذه المنزلة العالية منزلة تربية هذا الخلق نفوس الناشئة؛ فلا شك أن مثل هذا الرجل الشجاع مكتوب في عداد أولياء الحق الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

صحة التفكير لازمة للموظف، والطبيب، والصانع، والسياسي، والتاجر، وحارث الأرض، وإن طريقة تفكير الإنسان دليل على أخلاق الإنسان، وأخلاق الإنسان هي الإنسان نفسه؛ فهل لأساتذة مدارسنا أن يسهروا لياليهم في التنقيب عن الوسائل التي تزيد رجال مستقبلنا تقدماً في مواطن الرجولية، وارتفاعاً في مراقي الإنسانية؟
_________
تم اختصار المقال.

www.islamweb.net