مفهوم الزهد وعمارة الأرض

28/08/2022| إسلام ويب

 

من ينظر في بعض النصوص الشرعية يجد الترغيب في الزهد والتقلل من متع الدنيا، ويجد أيضا النصوص التي تدل على مبدأ الاستخلاف ووظيفة المسلم في عمارة الأرض بناء على نصوص التسخير والإباحة والامتنان على العباد بالنعم الكثيرة، والتذكير بها في كثير من النصوص، فهل هناك تعارض بين هذه النصوص أم أن الالتباس يحصل في فهم البعض لهذه النصوص؟

مما لا شك فيه أن تلك النصوص محكمة، ولا تشابه فيها أو تعارض في الحقيقة، وحينما تفهم بسياقها ومقصودها واعتباراتها فإنه يزول الالتباس، ويتضح المعنى، وهذا شأن النصوص الشرعية في كل الأبواب، فهي محكمة لكون مصدرها الوحي، وعلى قدر امتلاك أدوات الفهم الصحيح يقل التشابه ويتسع الإحكام، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء:82.

أولا: تحقيق مفهوم الزهد:

تعريفات العلماء للزهد لها اتجاهان:

الاتجاه الأول: من يرى الزهد عملا قلبيا، فيعرفه بأنه: استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب، أو هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف، قال ابن القيم في مدارج السالكين: "والذي أجمع عليه العارفون أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة وغيرها من التعريفات التي تدور حول هذا المعنى، ويفهم منها أن الزهد من أحوال القلوب، بحيث يترك العبد تعلق قلبه بالدنيا، فلا يمتنع أن يتملك من الدنيا ما دام قلبه غير مفتون بها".

الاتجاه الثاني: من قال إن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، فهو يجعل الزهد من أعمال الجوارح، فلا يكون زاهدا حقيقة حتى يترك الدنيا، ويقتصر على القدر الذي يكفيه منها، وهذا لا يتوافق مع المنهج النبوي الذي جاء بالترغيب بالقناعة لا بترك الدنيا الكلية.

فهل يدخل مثل هذا في حقيقة الزهد؟

أجاب الغزالي بكلام مشبع ووافقه ابن الجوزي ولخصه في منهاج القاصدين واختصره ابن قدامة المقدسي فقال: "قد سمع خلق كثير ذمَّ الدنيا مطلقًا فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خُلِقَتْ للمنافع فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب، وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها فكلما تاقت منعوها ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد وجهلًا بحقوق النفس وعلى هذا أكثر المتزهدين وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم".

وخير الهدي هدي الأنبياء وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم صحابته الأخيار الذين فهموا الدين كما أراد الله، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام أزهد أهل زمانهما، وقد أعطيا الملك والنبوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، ويحث على العمل والكسب، وينهى عن التعلق بالدنيا والتفاخر فيها، فكان أصحابه رضوان الله عليهم من أزهد الناس مع أن من أصحابه من أثرى ومنهم عثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، ولم يمنع ذلك من وصفهم بالزهد والقناعة.

وقد دلت الآية الكريمة التي أجازت التجارة في الحج على هذا المعنى، قال سبحانه وتعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله} البقرة: 198، فأذن للقادم إلى عبادة الحج أن يمارس التجارة جامعا بينها وبين أداء المناسك، بما يدل على أنه لا تعارض بين الكسب وبين العبادة.

وقد كان كمال الصحابة رضوان الله عليهم في تحقيق هذا المفهوم، فكانوا عمال أنفسهم، يزرعون ويتاجرون ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، فأخذوا الدين بواقعية وموضوعية مكنتهم من الاستمرار والثبات والإبداع في إنشاء حضارة لا تتكرر، ففي البخاري عن عمر -رضي الله عنه- قال: "كنت أنا وجارٍ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضربًا شديدًا فقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: لا أدري، ثم دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: وأنا قائم أطلقت نساءك؟ قال: «لا» فقلت: الله أكبر".

فالزهد في مفهوم الجيل الأول ليس في ترك المال، بل في كسبه وإنفاقه في سبيل الله، وهذا ما فهمه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وهو الرجل الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علما وعملا، وكان تاجرا من أثرياء الصحابة، لكن كان ماله كان مبذولا لله ورسوله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتنا لمال أبي بكر، ويثني عليه قائلا: "ما نفعَنِي مالٌ قطُّ ، ما نفعَنِي مالُ أبي بَكرٍ فبكى أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه وقال : ما أنا ومالي إلَّا لكَ"، رواه ابن حبان في صحيحه، ومن زهده أنه في لحظة واحدة يخرج من ماله كله عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلك؟))، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: ((يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلِكَ؟))، قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، قلتُ: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا!

وقد روي عن أبي ذر مرفوعا: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك " . رواه الطبراني في الأوسط

الزهد وعمارة الأرض:

لا شك أن مفهوم الزهد المجتزأ الذي يدعو إلى التخلي عن المال بالكلية وترك الدنيا، متكئا على النصوص التي تزهد في الدنيا وتحقرها، والنصوص الواردة في ذم المال، وغيرها يعتبر من أسباب التردي الحضاري للأمة أمام التفوق المادي الذي يشهده الوجود البشري اليوم، وهي دعوة إلى السلبية الباردة في بناء أمجاد المسلمين. وهو مسلك يؤدي إلى المعارضة بين نصوص الشريعة وضرب بعضها ببعض.

والصواب أن الزهد لا يتعارض مع مقصد عمارة الأرض، وبنظرة سريعة في نصوص القرآن نجد كيف جمع بين الأمر بالعبادة والعمارة، فالقرآن فيه (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) الأعراف:59، وفيه أيضا (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) الملك:15، وفيه (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) الجمعة:10، وفيه (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود:61،  فلا يبدو أن مبدأ العبادة والزهد في الدنيا يتعارض مع كسب المال والضرب في الأرض، فالزهد عمل قلبي يمنع صاحبه من افتتان القلب بالمال والركون إليه، بل يكون المال بيده يسلطه في الخير والنفع العام.

فطبيعة هذا الدين تأبى على المسلم أن يكون سلبيا خاملا، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية تمنع ذلك، كيف وقد أشاد بناء الدولة، ولم يهمل المال وتنميته في نصرة الحق وأهله، وبنى المجتمع على أسس التعاون والتناصر والتناصح، وعقد ألوية الجيوش ولم يتوقف عن الحركة حتى لحق بالرفيق الأعلى داعيا ومعلما وناصحا ومصلحا ومجاهدا وهو مع ذلك أعبد الخلق وأزهدهم وأعلمهم بالله ومراده وبحقائق الدنيا والآخرة، ثم يحيد بعض المسلمين عن هديه، وهل الزهد إلا ما فعله، وهل الدين إلا ما جاء به، فهم يأخذون منه هديا ويتركون هديا.

وحين تسخر الدنيا للآخرة يصبح العمل للدنيا هو عين العمل للآخرة، فالسعي في الأرض مصحوبا بقصد عمارة الأرض ويتوافق القصد البشري مع مراد الله، فهذا المقصد هو الإكسير الذي يحول الأعمال العادية والدنيوية إلى قربات للآخرة، ويجعل البناء الحضاري مشروعا أخرويا؛ باعتباره من أسباب علو شأن الإسلام بين العالمين، فالعبادة والعمارة للأرض بينهما تلازم وتكامل تتشكل منهما معادلة تكوين الحضارة الإسلامية التي أضافت للوجود البشري مبادئ التكريم للإنسان بتحريره واستثمار وجوده وفق تعاليم الإسلام.

وطلب المال حين يكون بقصد حسن يكون المال صالحا؛ لأن به تصلح الحياة، وينتصر الحق، ويغلب الباطل، فيكون نعم المال وأحسنه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة"، قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، إنما أسلمت رغبة في الإسلام، فأكون مع رسول الله، فقال: "يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح".

إضافة إلى أن الانحراف في مفهوم الزهد يوصل إلى تحقيق ما يصبو إليه أعداء الحضارة الإسلامية وما يرومونه من تحجيم دور المسلمين في جميع المجالات، من خلال الدعوة إلى العزوف عن الدنيا، وترك العمل والإنتاج، وهو الواقع المشاهد اليوم، فهم يعملون على قولبة التدين بطقوس وشعائر مجردة، ويستثمرون في ذلك طوائف من المنتسبين للإسلام، ويحاربون كل مظهر من مظاهر التدين الناهض، والعمل الواعي، إدراكا منهم أن هذه الحضارة لها إرث ضخم، وهي قادرة على النهوض متى ما تحررت من المفاهيم السلبية، وأخذت بالأسباب المادية، في تحقيق الاكتفاء، والتواجد في ميادين الحياة، واستثمار الموارد التي وهبهم الله إياها في تحقيق مراد الله منها.

 

www.islamweb.net