قواعد التعامل مع أحاديث الفتن (التنزيل على الواقع) 1-2

06/03/2023| إسلام ويب

تنزيل النص النبوي على الواقع فرع عن ثبوت صحته، وانضباط فهمه وفق دلالات ألفاظه، ولكل خطوة منها ضوابطها وقواعدها الحاكمة لها، ونحن بصدد الكلام عن القاعدة الثانية من قواعد العلماء في التعامل مع نصوص الفتن، وهي: 
الالتزام بضوابط تنزيل النصوص على الأعيان والوقائع:
ومعنى ذلك: أن إسقاط نصوص الفتن على الأعيان أو الأحداث مسألة في غاية الخطورة، فإنه ينبني على ذلك أحكام من الحلال والحرام، والإقدام والإحجام، وقد ينبني عليها استحلال دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فكان لا بد من ضبط ذلك بضوابط واضحة، وأن لا يترك هذا البحث للمبتدئين والمتعجلين، بل يكون ذلك من أخص وظائف العلماء الراسخين في العلم، من خلال اجتهاد جماعي تشاوري، بحيث يتم الجمع بين اعتبار الألفاظ والمعاني، والحال والمآل.

من ضوابط تنزيل أحاديث الفتن: أن يثبت صحة التنزيل بالنص أو القرائن الواضحة:
وذلك بحيث يكون النص مشتملا على التنويه بأعيان الفتنة، أو زمنها وسياقها، فإن لم يكن بالنص فبالقرائن الواضحة، وذلك أن أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة من المغيبات التي لا مجال للرأي فيها، فهي متوقفة على النص وما يحتف به من القرائن الواقعية التي تعين على التنزيل الصحيح لتلك النصوص، فلا مجال للحسابات العددية، أو التنبؤات السياسية، أو أعمال التنجيم والشعوذة، بل لا بد أن يستند التنزيل إلى نص واضح أو قرائن بينة، وهذا يتبين من مسلك الصحابة رضي الله عنهم في تعاملهم مع تلك الأحاديث، وسنورد جملة من الأمثلة التي يتبين من خلالها منهج الصحابة رضي الله عنهم في الاستناد إلى النصوص والقرائن الواضحة في تنزيلها على الوقائع والأحداث.

وأما ما لم يرد فيه نص يُعيْنُ على تنزيله، أو قرائن بينة واضحة، فلا ينبغي المغامرة في تنزيله لأدنى مشابهة، كما قال القرطبي في التذكرة: "والذي ينبغي أن يقال به في هذا الباب أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أنَّ ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة؛ فلا يعلم أحد أيّ سنة هي ولا أيّ شهر".

أمثلة على تعامل الصحابة مع أحاديث الفتن في ضوء الضابط السابق:
المثال الأول: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال الخوارج، وتحقق علي رضي الله عنه من علاماتهم، ففي صحيح مسلم عن ‌زيد بن وهب الجهني  أنه كان في الجيش الذين كانوا مع ‌علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتَّكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم، وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس»، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا، حتى قال: مررنا على قنطرة، فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال: لهم ألقوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء فرجعوا فوحشوا برماحهم، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم، قال: وقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم ‌‌الْمُخْدَجَ، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض قال: أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبَّر، ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله، قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو لسمعتَ هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له.



المثال الثاني: ما في صحيح مسلم عن حذيفة قال: كنا عندعمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ قال فقلت: أنا. قال: إنك لجريء وكيف قال؟ قال قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». فقال ‌عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال فقلت: مالك ولها؟ يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أفيكسر ‌الباب أم يفتح؟ قال قلت: لا، بل ‌يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا.

 

قال فقلنا لحذيفة: هل كان ‌عمر يعلم من ‌الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، قال فهبنا أن نسأل حذيفة: من ‌الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: ‌عمر.

المثال الثالث: ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلاك أمتي على يدي غلمة من ‌قريش». فقال مروان: غلمة؟ قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان.

المثال الرابع: من التنزيل بالقرائن: ما جاء في صحيح مسلم في قصة قتل ابن الزبير، وفيه قول أسماء بنت أبي بكر للحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: «أن في ‌ثقيف كذاباً ومُبِيراً» فأما الكذاب فرأيناه، وأما المُبير فلا إِخالُك إلا إياه، قال فقام عنها ولم يراجعها.

 

وقد أورد الترمذي بعد روايته لهذا الحديث ما يؤكد ذلك من الواقع، فروى عن هشام بن حسان قال: «أحصَوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل». قوله "مُبير": بضم ميم وكسر موحدة أي: مفسد ومهلك من البوار، وهو الهلاك والفساد وتنوينهما للتعظيم.

 

فالقرينة واضحة على أنهما المقصودان بهذا الخبر، فكلاهما من ثقيف، وأحدهما كذاب وهو المختار، والثاني مفسد وقاتل، فكان انطباق الخبر عليهما واضحا.

المثال الخامس: ما روى البخاري عن ‌حارثة بن وهب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان، ‌يمشي ‌الرجل ‌بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها».

 

قال القسطلاني في إرشاد الساري: ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما وقع في زمن ‌عمر ‌بن ‌عبد ‌العزيز وبه جزم البيهقي.

وأما اجتهادات العلماء في تنزيل بعض النصوص على بعض الوقائع فمن باب الاجتهاد الذي لا يخلو من القرائن التاريخية والواقعية، كما في صحيح البخاري من حديث: ‌حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه ‌دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاةٌ إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: « فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

قال الوزير ابن هبيرة في الإفصاح: الخير الصريح كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، حتى جرى ما جرى من الشر الذي انتهى إلى القتل بعثمان رضي الله عنه، وأنه أعقبه بعد ذلك الخير الذي كان في زمان عثمان رضي الله عنه من إمامته إلا أنه كان فيه من الدخن الذي ظهر واشتهر مما جرى في زمن علي من تنكر الأحوال وتزلزل الأقدام حتى جرى بين الصحابة في يوم الجمل وصفين وغير ذلك ما جرى ذلك الذي يعرف منه وينكر، وأن بعد ذلك الخير شرًا، وهو أن الدعاة بالدين على باب جهنم ممن كان من الولاة الذين جرى منهم ما جرى في الحرة وكربلاء والبلد الحرام.

قال القرطبي في المفهم في قوله "خير فيه دخن": الأولى أن الإشارة بذلك إلى مُدّة خلافة معاوية فإنها كانت تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وهي مدّة الهدنة التي كان فيها الدَّخَن؛ لأنه لما بايع الحسنُ معاويةَ، واجتمع الناس عليه، كره ذلك كثير من الناس بقلوبهم، وبقيت الكراهة فيهم، ولم تُمكِنُهم المخالفة في مدة معاوية، ولا إظهارها إلى زمن يزيد بن معاوية فأظهرها كثير من الناس، ومدة خلافة معاوية كان الشرّ فيها قليلًا والخير غالبًا، فعليهم يصدق قوله عليه الصلاة والسلام "تعرف منهم وتنكر"، وأمَّا خلافة ابنه فهي أول الشرِّ الثالث؛ فيزيد وأكثر ولاته ومن بعده من خلفاء بني أميةَ هم الذين يَصدُق عليهم أنّهم دُعَاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فإنهم لم يسيروا بالسَّواء ولا عدلوا في القضاء، يدل على ذلك تَصَفُّحُ أخبارهم ومطالعةُ سِيَرهم، ولا يُعتَرضُ على هذا بمدة خلافة عمر بن عبد العزيز بأنها كانت خلافة عدل لقصرها وندورها في بني أمية، فقد كانت سنتين وخمسة أشهر، فكأنَّ هذا الحديث لم يتعرض لها، والله تعالى أعلم.

وأما بعض التنزيلات المعاصرة التي لا تقوم على أساس من النصوص، أو الآثار، أو القرائن، أو المطابقة بالواقع، فإنها عبث بالنصوص، وجهالات لا علاقة لها بالعلم، وقد صدرت مجموعة من الكتابات والتنبؤات التي أثبت الواقع زيفها، ولا تزال تصدر مع كل حدث إسقاطات جديدة، وتخرصات بعيدة، سواء ما يتعلق بأحاديث المهدي، أو المسيح الدجال، أو بقوم يأجوج ومأجوج، أو بالملاحم التي تحدث في آخر الزمان، أو بالتنبؤات حول الخلافة الراشدة، وأن فلان هو السفياني، وفلان هو القحطاني، وأن الجماعة الفلانية هم المقصودون بحديث الرايات السود، وأن المعركة الفلانية هي المقصودة بأحاديث قتال اليهود في آخر الزمان، والقطع بأن الزمن الذي نحن فيه هو زمن ظهور المهدي وغيره من أشراط الساعة، وهكذا قراءات متنوعة ومتناقضة، وتنزيلات متعجلة تدخل في القول على الله بغير علم.

www.islamweb.net