فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا

26/03/2023| إسلام ويب

من السنن الاجتماعية التي قررها القرآن الكريم سنة إهلاك الظالمين بسبب ظلمهم، وسنة الله لا تتبدل ولا تتحول عبر الزمان والمكان، وقد قال تعالى: {ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الأحزاب:62).

وفي سياق حديث القرآن عن قوم صالح عليه السلام، وتكذيبهم لما جاءهم به، يخبرنا سبحانه عن عاقبة أمرهم فيقول: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} (النمل:52) نقف مع هذه الآية الوقفات الآتية: 

الوقفة الأولى: (الخاوية) الخالية، ومصدره الخواء، أي: فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها. وقد يكون المراد من {خاوية} أنها ساقطة متهدمة، من خوى النجم: إذا سقط، فكلا المعنيين يحتملهما اللفظ.

الوقفة الثانية: (الباء) في قوله سبحانه: {بما ظلموا} للسببية، و(ما) مصدرية، أي كان خواؤها بسبب ظلمهم. قال ابن عاشور: "لما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم، كالفساد، كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثراً في خراب بلادهم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرب البيوت، وتلا: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}". وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم) متفق عليه.

الوقفة الثالثة: قال ابن عطية: "(إخواء البيوت) وخرابها مما أخبر الله تعالى به في كل الشرائع أنه مما يعاقب به الظلمة، وفي التوراة: (ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك)". وسُنَّة إهلاك الظالمين أخبر عنها سبحانه في مواضع عديدة من القرآن الكريم، من ذلك غير الآية موضوع الحديث قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} (الحج:45) وقوله عز وجل: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} (الكهف:59) وقوله سبحانه: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص:59) وغير ذلك من الآيات الدالة على أن عاقبة الظلم بأنواعه وأشكاله الهلاك والبوار والدمار، سواء كان ظلماً فرديًّا أو ظلماً اجتماعيًّا. 

الوقفة الرابعة: الظلم في الآية يشمل الظلم في حق الله سبحانه، والظلم في حق العباد، والظلم في حق الإنسان نفسه؛ فالظلم في حقه سبحانه تعدي حدوده التي شرعها لعباده، وعدم الالتزام بما أمر به ونهى عنه، والشرك وتكذيب الرسل، ظلم في جانب الله؛ لأنه اعتداء على حق وحدانيته، وظلم للرسل بتكذيبهم وهم الصادقون. والظلم في حق العباد في التعدي عليهم بأخذ حقوقهم المادية والمعنوية، والظلم في حق النفس الأخذ بها إلى غير ما شرع الله سبحانه. يقول القشيري: "فالنفوس إذا ظلمت بزلاتها خربت بلحوقها شؤم الذلة حتى يتعود صاحبها الكسل، ويستوطن مركب الفشل، ويحرم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلان وقسوة القلب وجحود العين، وانتفاء تعظيم الشريعة من القلب. وأصحاب القلوب إذا ظلموها بالغفلة، ولم يحاولوا طردها عن قلوبهم، خربت قلوبهم حتى تقسو بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة". 

الوقفة الخامسة: أشار ابن عاشور إلى لفتة مهمة في هذه الآية، وهي أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلاً في الوجود الذهني، كان بين كثير منها انتساب وتقارب، يرد بعضها إلى بعض باختلاف الاعتبار؛ فالشرك مثلاً حقيقة معروفة يكون بها جنساً عقليًّا، وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه، ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم، أي: الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم، فإنه من أسبابه، ومثل الفسق فإنه من آثاره، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضاً: {وذرني والمكذبين} (المزمل:11)، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضاً. فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق؛ للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي، فيعبر عنه هنا بالظلم، وهو كثير، ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم، ناهيك أن الشرك من أنواعه. 

الوقفة السادسة: ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} أي: في ما ذُكر من التدمير العجيب لآية لقوم يعلمون قدرتنا، فيتعظون بعاقبة الظالمين ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، ففي كل ذلك آيات وعِبَرٌ ومواعظُ ودلائلُ متظاهرة؛ إذ المقصد الأساس من تلك القصص الاعتبار والاتعاظ، وهذا ما يرمي إليه القرآن. فـ (العلم) هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث، وبعد مشهد المباغتة يجيء ذكر نجاة المؤمنين الذين يخافون الله ويتقونه {وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} (النمل:53) فمن شأن القرآن دوماً وابداً أن يقابل بين عاقبة المتقين وعاقبة الظالمين، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال:42).  

www.islamweb.net