أَيُّما رَجُلٍ قال لأخِيه: يا كافِر، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما

27/07/2025| إسلام ويب

مِنَ المقاصد الشرعية التي جاء الإسلام بها: حِفظ الأعراضِ عن السَّبِّ والشَّتْمِ وسائِرِ الألفاظِ التي تتَّهِم الناس بما ليس فيهم. والإقْدام والجُرْأة على تَكفيرِ النَّاس أو تَفسيقِهم أمرٌ خطير وعظيم، وقد نَهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وحذر أنْ يَرميَ الرَّجلُ أخاه ويتَّهِمَه بِالفِسْق أوِ بالكُفْر، وأخبر أنَّ مَنْ فعَل ذلِك ولم يكُنْ بِصاحبِه وأخيه ما رماه به، ارتدَّ ذلك عليه، والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، ومنها:
1 ـ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بالفُسُوق، ولا يَرْمِيه بالكُفْر، إلَّا ارْتَدَّتْ عليه إنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُه كَذلك) رواه البخاري.
2 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّما رَجُلٍ قال لأخِيه: يا كافِر، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما) رواه البخاري.
قال الكرماني في "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري": "و(لا يرمي) أي لا ينسبه إلى الفِسْق أو الكفر إلا ارتدت تلك الرَمْيَة عليه بأن يصير هو فاسقاً بذلك أو كافرا".
وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في الحديث شدة الحظر على مَنْ رَمَى أخاه المسلم بالكفر، فإنه بهذا الحديث على يقين مِن ارتدادها إليه إن لم يكن أخوه كما ادَّعاه. فليحذر أن يقولها أبدًا لمن هو مِنْ أمره في شك، وكذلك أن يرميه بالفسق فإنه على سبيله في ارتداده عليه إن لم يكن كما ذكره بيقين".
وقال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه) أي: رجل رجلا (بالكفر إلا ارتدت) أي: رجعت تلك الكلمة مِنْ نِسبة الفسق أو الكفر (عليه) أي: على القائل أو على أحدهما".
وقال الكشميري في "فيض الباري على صحيح البخاري": "والذي تبين لي أن الكلمةَ إذا خرجت مِنَ الفم لا تزال تطلب محلًا لوقوعها، فإِما أنْ تذهب إلى مَنْ قيل لها، إنْ كان مستحقًا لها، أو ترجع إلى صاحبها إنْ لم يَكُن كذلك".

وهذا الكفر الذي يرجع على القائل (إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) و (أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) ليس هو الكفر الأكبر مطلقا، بل الأصل فيه أنه مِنَ الكفر الأصغر، وقد نصَّ أهل العلم أن لفظة الكفر في الحديث محمولة على الكفر الأصغر.
قال ابن قدامة في "المُغْنِي": "هذه الأحاديث على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على وجه الحقيقة". وقال النووي: "هذا الحديث مما عدَّه بعض العلماء مِنَ المشكلات مِنْ حيث إن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يُكَفَّر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا. وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، وإذا عُرِف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه: أحدها: أنه محمول على المُسْتَحِلّ لذلك، وهذا يكفر، فعلى هذا معنى (باء بها) أي بكلمة الكفر.. والوجه الثاني: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره". وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "معنى قَولِه: (مَنْ رمى مُؤمِنًا بكُفرِ فهو كقَتْلِه) يعني في تحريمِ ذلك عليه، واللهُ أعلَم".
وقال ابن عبد البر في "التمهيد": "فقد باء القائل بذنب كبير وإثم عظيم، واحتمله بقوله ذلك، وهذا غاية في التحذير مِنْ هذا القول والنهي عن أن يقال لأحد مِنْ أهل القِبْلة (أي مِنَ السلمين): يا كافر.. فالقرآن والسُنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره إلا ببيان لا إشكال فيه".. وقال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كما قال).. وهذا يقتضي أنَّ مَنْ قال لآخر: "أنت فاسق" أو قال له: "أنت كافر" فإنْ كان ليس كما قال، كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم مِن كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون آثما في صورة قوله له "أنت فاسق"، بل في هذه الصورة تفصيل: إنْ قصد نُصحه أو نُصْح غيره ببيان حاله جاز، وإنْ قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يَجُزْ، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعِظَته بالحُسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف، لأنه قد يكون سببا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير مِنَ الناس.. ووقع في رواية مسلم بلفظ (ومَنْ دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار (رجع) عليه).. والتحقيق أن الحديث سيق لِزَجْر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم.. فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر".
وقال القرطبي في "الاستذكار": "وفائدة هذا الحديث النهي عن تكفير المؤمن وتفسيقه، قال الله عز وجل: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الحجرات:11)، فقال جماعة مِنَ المفسرين في هذه الآية: هو قول الرجل لأخيه يا كافر يا فاسق، وممن قال بذلك عكرمة والحسن وقتادة". وقال في "المُفهم": "حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جَحْد المعلوم مِنْ دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المُنْعِم والقيام بحقه، كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان في باب "كفر دون كفر"، وفي حديث أبي سعيد: (يَكْفُرْنَ الإحسان ويكفرن العشير).. والحاصل أنَّ المقول له إنْ كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل مَعَرَّة ذلك القول وإثمه، كذا اقتصر على هذا التأويل في (رَجع) وهو مِنْ أعدل الأجوبة".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": ".. كما قال بعض الصحابة: كفر دون كفر. وكذلك قوله: (مَنْ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) فقد سمَّاه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر". وقال ابن القيِّم في "إعلام الموقعين": "مِنَ الكبائِرِ تكفير مَنْ لم يُكَفِّرْه اللهُ ورسولُه".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الْحُكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا، بل هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو مِن الأحكام الشرعية التي مَرَدّها إلى الكتاب والسُنة، فيجب التَّثَبّت فيه غاية التَّثَبّت، فلا يُكَفّر ولا يُفَسّق إلاّ مَنْ دَلَّ الكتاب والسُنة على كُفْره أو فِسْقه"..

رَمْي المسلم واتهامه لأخيه بالفسق أوٍ بالكفر ليس بالأمر الهَيِّن، بل هو مِنَ الخطورة بمكانٍ عظيم، وذلك لِمَا فيه مِن استباحةٍ لما حرَّمه الله عز وجل مِنْ حُرْمَة المسلم التي أكَّدَ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجَّةِ الوداع فقال: (يا أيُّها النَّاسُ أيُّ يَومٍ هذا؟ قالوا: يَوْمٌ حَرَام، قال: فأيُّ بَلَدٍ هذا؟ قالوا: بَلَدٌ حَرَام، قال: فأيُّ شَهْرٍ هذا؟ قالوا: شَهْرٌ حَرَام، قال: فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَام، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فأعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَع رَأْسَه فقال: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ - قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنه: فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِه، إنَّهَا لَوَصِيَّتُه إلى أُمَّتِه) رواه البخاري.
وقد كان السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ مِنَ الصحابة والتابعين حريصين أشد الحرص على إمساك ألسنتهم، وكفها عنِ الخوض في رمي المسلم بالكفر أو بالفسق.. ذَكَر ابن عبد البر في "التمهيد" عن أبي سفيان قال: "قلتُ لجابر: أكنتم تقولون لأحد مِنْ أهل القِبْلة (أي مِنَ المسلمين): كافر؟ قال: لا، قلتُ: فمشرك؟ قال: معاذ الله، وفزع". وعن يزيد الرَّقَاشِىّ أنه قال لأنس بن مالك: "يا أبا حمزة! إن أناسا يشهدون علينا بالكفر والشرك، قال: أولئك شر الخَلْق والخليقة".. ومِنْ ثم فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه النجاة في الدُّنيا والآخِرة، عدم التسرع بإصدارِ الحكم على الناس، أو رمي المسلم ـ بالكفر، أو الشرك، أو الفِسْق ـ، وعليه التِماس العُذر وحُسْن الظنِّ بغيره، وأنْ يُمسك لسانه عن الخوض في الحُرُمات والأعْراض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَرْمي رَجُلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم ـ أو على مَناخرِهِم (المِنخَرُ: ثَقْبُ الأنفِ وفَتحتُه) ـ إلَّا حَصائد ألسنتِهِم) رواه أحمد. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلتُ: يا رسولَ اللَّه ما النَّجاة؟ قال: أمسِكْ عليْكَ لسانَك، وليسعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِك) رواه الترمذي.. 

www.islamweb.net