الحرية مطلب إسلامي

18/02/2024| إسلام ويب

يكثر في زماننا هذا كلام المرجفين، الذين يحاولون أن يصوروا الإسلام أنه قيود على الإنسان؛ يحد من حريته، وينتقص من إنسانيته، ويلغي عقله، ويجعله تابعاً منقاداً من غير فكر؛ إلى غير ذلك من دعايات، وتهم تلصق بالإسلام جزافاً ويتبناها بعض أبناء المسلمين، ممن أشربوا حضارة غيرنا، وتشربوا سموم أهل المكر والنفاق.

ولكن العاقل من الناس والموفق من بني البشر إذا نظر إلى الإسلام وجد أنه -عقيدة وسلوكاً - جاء لرفعة الإنسان، وحريته، وأنه أعطى الحرية مفهوماً واسعاً ومُحكماً يصل إلى حد التكريم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الإسراء:70).

فالإسلام إذن من منطلق "تكريم بني آدم" عمل على تحرير الإنسان من الرق، ليس هذا فحسب، بل كان أول نظام يمنح الإنسان ـ بصرف النظر عن جنسه ولونه ـ ما يمكن أن نسميه "الحرية الشاملة".

فالإنسان من وجهة نظر الإسلام مستخلف في الأرض؛ وهذا الاستخلاف مشروط بتوفر شرطين في المُستَخلَف: العقل والحرية، فالحرية والعقل مناط المسؤولية والتكليف ـ كما يقول الأصوليون ـ حرية تترقى بقدر عبوديتك لله وعلمك به، هكذا فهم المسلمون دين الله، فكانوا أسمح حضارة عرفتها البشرية، سادوا في الأرض فكانت الأقليات غير المسلمة تنعم بالدفء والرخاء في ظل الدولة الإسلامية، وكان المسلمون منفتحون على المعارف والتجارب الإنسانية، يأخذون الحكمة من حيث أتت.

أما الحرية الفردية فيستطيع الإنسان أن يدرك بدون كبير عناء أنه ما تقرب أحد إلى الله إلا ارتقى إلى أفق من الاقتدار والحرية أعلى، وانفتحت أمامه أبواب أخرى للخير ومغالبة الضرورات التي تعترض طريقه.

قال أحد المفكرين الإسلاميين: "الحرية في الإسلام: الخضوع الواعي لنواميس الكون والشرع، إنها ليست استباحة: افعلوا ما تمليه عليكم رغائبكم، فتلك "حرية" الحيوان، وإنما افعلوا الواجب الذي أمركم الله به تتحرروا من أهوائكم ومن تسلط بعضكم على بعض، إن الحرية والمسؤولية لا تنفصلان".

الحرية في الإسلام حرية مسئولة، وليست حرية مُنطَلِقة مُتسَيّبة بلا ضوابط ولا قيود فتلك هي الفوضوية بعينها.. الفوضوية التي تقود الفرد إلى الضياع وفساد الدين، وتؤدي بالمجتمع إلى الخراب والانهيار.

إن الحرية الإسلامية حرية شاملة تتناول كل جوانب الحياة، وتمكن الإنسان من العيش والمعايشة بإرادته دون أن يكون مقهورًا أو مظلومًا، أو واقعًا تحت ضغط غير مشروع، أو هي كما عرفها أحد المفكرين المعاصرين: "الانطلاق المشروع في الرأي والقول والفعل، والاتصال بالغير".

وقد كفل الإسلام للإنسان حريةَ التفكير، وحرر العقل الإنساني من الأوهام والخرافات والوقوع في أسر التقليد الأعمى، ومن حق الإنسان أن يتمتع بهذا النوع من الحرية؛ فقد خلقه الله من مادة "الطين" ونفخ فيه من روحه، وكرمه بالعقل الذي وعى حقيقة الأشياء اسمًا ومسمى.

ولقد كرم الله الإنسان، بالحواس، لا لذاتها ولكن بقدر ما توصل صاحبها إلى طريق الفهم والاهتداء والتقوى والصلاح {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ](سورة البلد).

وإذا لم تستطع الحواس أن ترتفع بالحقيقة الإنسانية في نفس الإنسان، وتكون وسائل لتحصيل العلم والوصول إلى اليقين والهدى، والتحرر من ربقة الظلم، فوجودها كعدمها سواء، بل إن الإنسان في هذه الحالة يكون أحط مكانة من البهائم؛ لأن البهائم تستخدم حواسها بأقصى طاقاتها حفاظًا على بقائها، أما هو فقد عطل حواسه التي أنعم الله بها عليه لاستعمالها كصاحب رسالة كرمه الله باستخلافه في الأرض، وما قيمة العقل إذا ما عطلت طاقته عن الخير؟ وما قيمة العين إذا لم تبصر طريق الهدى؟ وما قيمة الأذن إذا لم تصغ لصوت الحق واليقين؟ {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأعراف:179].

يقول الأستاذ جابر قميحة رحمه الله تعالى: "القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، وبهذا المفهوم الشامل للعقل، تحريرًا له من الجمود والتوقف والتخلف عن التفاعل الحي مع ما يرى من مظاهر الكون والحياة، دعا الإسلام إلى النظر والتفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون، ولا يتأملون خلق الله، ولا يعملون عقولهم خلوصًا إلى اليقين {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}".

إنك تعلم أن مقاصد الشريعة الإسلامية خمسة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وأضاف إليها الأصولي الفقيه الكبير ابن عاشور مقصد الحرية والعدل؛ لأن الحرية تعطي الإنسان دوره في الحياة، فمن لم يملك حريته، وكان أسير شهوته، أو أسير عصبيته، أو مذهبه، لن يكون أبداً قادراً على الاختيار الحر، والموقف الأسلم؛ وبالتالي يكون كلاً على المجتمع وعبئاً على الأمة.

لذلك أوجب الله على الأمة أن تكون حرة، ليس بشكل جزئي ولكن في كل جوانب حياتها، لذلك لا يؤاخذ الإنسان شرعاً إن غاب عقله واستكره كما جاء في الحديث (إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ، و النسيانَ، و ما اسْتُكرِهوا عليه)"ابن ماجة".

إن مشهد المؤمنين وهم ينتفضون من مهاجعهم في الفجر استجابة للنداء الإلهي للصلاة جماعة، ومشهد حجاج بيت الله الحرام وهم يجتمعون في صعيد يلبّون بصوت واحد، وقد تركوا وراءهم الأهل والوطن، وكذا مشهد المُزَكِّين وقد انتصروا على شهوة الكنز، فدفعوا زكاة أموالهم بسخاء وليس لهم من رقيب غير الله، كلها مشاهد تحرر إنساني بامتياز وتضامن.
إن من تمرّن في مدرسة العبادات الإسلامية بوعي وإخلاص يبلغ من التحرر مبلغاً لا يصل إليه غيره.

www.islamweb.net