المسجد الأقصى في تاريخنا

10/10/2023| إسلام ويب

يقول الإمام القاضي ابن العربي المالكي الأندلسي (ت 543هـ/1148م) في كتابه "سراج المريدين": "لقد كان في بيت المقدس نسوة يُفْخَرُ بهنّ على الأزمنة؛ يَلْتَفِفْنَ على العالمة الشيرازية: فقيهة واعظة متعبدة متبتّلة، فلما دخل الروم بيت المقدس يوم الجمعة لاثنتيْ عشرة ليلة بقيت لشعبان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة (492هـ/1099م) لجأت بهن أجمعين إلى المسجد الأقصى، وجلسن في قبة السلسلة..، فلما غشيتهن الروم قمن إليهم بالسب ورمي التراب في وجوههن، فحصدوهن بالسيوف وأنزلوا بهن الحتوف. قال لي من عاين ذلك وهو في سطح المسجد الأقصى: كن قريبا من ألف امرأة"!.

ألف امرأة..؟!. نعم، ألف امرأة كُنَّ يُرابطْنَ في رحاب المسجد الأقصى عابداتٍ قانتاتٍ عالماتٍ ومتعلماتٍ، تصدَّيْنَ لأبشع هجمة بربرية استهدفت المسجد الأقصى في تاريخه!. إننا لا نتحدث عن نضالات المرابطين والمرابطات اليوم دفاعا عن الأقصى أمام همجية الاحتلال الصهيوني والتي تنقلها القنوات الفضائية لحظة بلحظة، بل نتكلم عن الهجوم الصليبي الدموي على المسجد الأقصى قبل قرابة ألف سنة من الآن!.

وكما يخبرنا الإمام ابن العربي -في نصه الآنف- فإنه كان في الأقصى حينها "تنظيم رباطي" يتألف من زهاء ألف امرأة يتبعن لقيادة علمية نسوية واحدة، وقد تحولن في لحظة العدوان الرهيبة تلك إلى مدافعات شرسات عن الأقصى حين اقتحم ساحاتِه الصليبيون، وثبَـتْنَ في دفاعهن عنه حتى استشهدن جميعا وهن صابرات صامدات!.

هذا المشهد الافتتاحي المَجيد -والقديم المتجدد في نضال حركة "نساء الأقصى" اليوم- هو خير ما نستهل به القول حين نحاول رسم صورة قلمية معبّرة عن مكانة المسجد الأقصى في قلوب العرب والمسلمين. وإن أول ما يلفت النظر في تاريخ المسجد الأقصى هو كيفية اتخاذ قرار تنفيذ أول مشروع لتطوير بنائه في التاريخ الإسلامي! فقد كانت إقامة قبة الصخرة في المسجد الأقصى بمشورة طلبها الخليفة حينها من المسلمين، فجاء تشييدها بمشاركة من الأمة وربما بـ"إجماع" منها آنذاك.

الأمر الآخر اللافت في تاريخ الأقصى هو ارتباط اسمه بمفهوم "الرباط"! والرباط أصلا هو تلك المحاضن النُّسُكِيّة الجهادية التي ينشئها العُبّاد على ثغور الحدود المفتوحة مع الأعداء، فيجسّدون بذلك الوصفَ الوارد في الأثر: "رُهبانٌ بالليل، لُيُوثٌ بالنهار"!. وقد استُشهد من هؤلاء المرابطين -في مذبحة الاستعمار الصليبي القديم- ثلاثة آلاف من العلماء والصُّلَحاء كانوا زينة أروقة المسجد الأقصى وأكنافه المباركة!.

وقد كان في طليعة مشاهير المرابطين فيه الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م)، وهو وإن لم يشهد قطعا مذبحة الأقصى الصليبية فإنه ألّف -حسب إحدى الروايات- في رحابه كتابَه العظيم "إحياء علوم الدين" الذي صاحب المجاهدين أينما حلّوا، وتربى به الألوف من المحاربين في الدول الزنكية والأيوبية والمملوكية؛ تلك الدول التي قدّمت أعظم مشروعات التحرر والمقاومة في تاريخ الأمة.
وفي الوقت الذي يستمر فيه العدوان -في أيامنا هذه- على القدس والأقصى وأكنافهما في قالب صهيوني صنعته قوى غربية ومكنت له؛ فإن نداء المرابطة للدفاع عن ثغور المقدسات لا يزال صدّاحا في سماء الأقصى، مؤكدا -كما تدلّ عليه أحداث انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة لباحاته وجنباته- أن قصته لا تزال هي القضية المركزية بـ"إجماع" من الأمة!. وهو ما تسعى هذه المقالة لكشف أدلته وتجلياته العملية في شتى حِقَب تاريخ المسلمين.
فضل راسخ
يعدّ المسجد الأقصى ثاني مسجد وُضع للناس في الأرض بعد المسجد الحرام بمكة؛ فقد روى البخاري (ت 256هـ/870م) عن أبي ذر الغفاري (ت 32هـ/654م) -رضي الله عنه- أنه قال: "قلت يا رسول الله، أيّ مسجد وُضع في الأرض أولَ؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: «المسجد الأقصى»". كما أن المسجد الأقصى ذكر في آية في كتاب الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1).

وإذا كانت الأحاديث والآثار الشرعية قد تواترت على فضل المسجد الأقصى؛ فإن الذي يهمنا في هذا المقال هو محاولة رصد الشواهد العملية لذلك الفضل في تاريخ المسلمين عبر العصور، وكيف تجلت مظاهره في حياتهم حين جعلوا منه محضنا للعبادة والعلم والتربية، وثغرا للمرابطة والجهاد.

ولعلّ أول ما يُذكر في بيان منزلة المسجد الأقصى العملية في قلوب المسلمين هو عراقة ما ألّفه العلماء المسلمون في فضل المسجد الأقصى؛ إذ التأليف في فضائل بيت المقدس قرينٌ لتاريخ التدوين الإسلاميّ برمّته، فأول كتابٍ في ذلك صنّفه بِشر بن إسحق البلخي (ت 206هـ/831م) بعنوان: "فتوح بيت المقدس"، وهو أقدمُ من كتابيْ الأزرقي (ت 250هـ/864م) والفاكهي (ت 272هـ/885م) المدوَّنيْن في أخبار مكة المشرّفة.

أما أول كتابٍ صُنِّف باسم "فضائل بيت المقدس" فهو للوليد بن حمّاد الرمليّ (ت نحو 300هـ/912م)، وهو معاصرٌ لأصحاب الكتب الستة وقد ترجم له الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في "سير أعلام النبلاء"... ثم توالت الكتب في فضائل بيت المقدس وتاريخه فبلغت عددًا يصعبُ حصره.
سابقة فريدة
كان ذلك من العناية المعنوية والتاريخية والفكرية ببيت المقدس، أما من الناحية العملية فأول ما يُذكر في منزلة بيت المقدس في ضمير الرأي العام الإسلامي هو ما بُذل في عملية بنائه وعمارته وزينته. ففي اللحظة الأولى التي استلم فيها الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه (ت 23هـ/645م) القُدسَ فاتحا سنة 16هـ/638م، سار إلى مكان الصخرة "فوجد على الصخرة زبلًا كثيرًا مما طرحته الروم غيظًا لبني إسرائيل، فبسط عمر رداءه وجعل يكنس ذلك الزبل، وجعل المسلمون يكنسون معه"، وفقا للمؤرخ مجير الدين العُلَيْمي (ت 928هـ/1522م) في "الأنْس الجليل بتاريخ القدس والخليل".

ومِمّا يُسجّل هنا للمسجد الأقصى أن أول مشروع تطويري لبنائه بُني بقرار من الأمّة ولم تنفرد بشرف تعميره السلطة وحدها، فقد ذكر الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في "مرآة الزمان"- أنه "لمَّا عزم عبد الملك (بن مروان ت 86هـ/706م) على بنائها (قبة الصخرة)، كتبَ إلى أهل الأمصار ممَّن هو في طاعته: أمَّا بعد، فإنَّ أمير المؤمنين قد عزمَ على بناء قُبَّة على صخرة بيت المقدس، تكونُ للمسلمين ظِلًّا وكنفًا..، وإنه كره أن يشرع في ذلك قبل أن يستشير أهلَ الرأي والفضل من رعيَّته، قال الله تعالى: {وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] فليكتبوا إليه ما عندهم فيما عزم عليه! فكتبوا إليه: ليُتَمّمْ أميرُ المؤمنين ما عزمَ عليه من بناء بيت الله المقدَّس، وتزيين المسجد الأقصى، أجرى الله الخيراتِ على يديه".

ولئن كان مؤرخون رأوا أن قصد عبد الملك من استشارة الأمة ناشئ عن ضعف جبهته الداخلية بسبب النزاع على الخلافة مع الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م)، فإنّ ذلك لا يطعن في حقيقة أن المسجد الأقصى عُمِّر بإرادة جماعية استثنائية من الأمّة في زمن الملك الجبريّ!.

لقد كلّف عبد الملك رجلين من خيرة رجاله: الفقيه المحدث رجاء بن حيوة (ت 112هـ/731م) ويزيد بن سلام (مولى الخليفة ت بعد 72هـ/692م) بالإشراف على البناء، لكنه مع ذلك عُني بأدقّ تفاصيل البناء قبل الشروع فيه. فسبط ابن الجوزي يخبرنا أن عبد الملك "جمع الصُّنَّاع والمهندسين من الآفاق، وأمرهم أن يُصَوِّروا القُبَّةَ قبل بنائها، فصوَّرُوها له في صحن المسجد، فأعجبَه"! وهذا يُشبه فكرة ما يُعرف اليوم -في مجال تصاميم البناء الهندسية- بـ"النموذج المعماري" (الماكيت – Maquette) الذي يوضع للبناء قبل تنفيذه!.
ويضيف سبط ابن الجوزي أن عبد الملك "بنى للمال (ميزانية البناء) بيتًا شرقيَّ القُبَّة وشَحنَهُ بالمال، وأمرَ رجاءَ ويزيدَ أنْ يُفْرِغا المال إفراغًا ولا يتوَقَّفا في شيء [من أمر العمارة]، فتمَّ البناء على القُبَّة التي هي قائمة اليوم". ويفيدنا العُلَيْمي -في "الأنس الجليل"- بتقدير لتلك النفقات، فيقول إن عبد الملك "أرصد للعمارة مالا كثيرا، يُقَال إِنَّه خراج مصر سبع سِنِين"!.

ولم يُردّ من المال المرصود لعمارة المسجد الأقصى وقبّته شيءٌ إلى مؤسسة بيت المال العام، بل أمر عبد الملك عامليه في ألوف الدنانير التي بقيت بعد تمام البناء أن "أفْرِغاه على القُبَّة والأبواب! [فأفرغَاه] فما كان أحد يقدر أن يتأمَّلَ القُبَّةَ ممَّا عليها من الذهب"!.

وبقي ذلك الذهبُ على المسجد عقودًا ثُم صار لاحقا ذُخرًا لتجديد عمارة المسجد الأقصى، ففي سنة 131هـ/750م أصاب زلزالٌ بيتَ المقدس فخرّب المسجد الأقصى تخريبًا شديدًا، وبعد عَقدٍ زاره الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) سنة 141هـ/759م "فشكا إليه الناس الخراب. فقال: قد علمتُم [عُسْرَ] الحال، وليس في يدي ما أَعمُره اليوم، ولكن اقلعُوا هذه الصفائح التي على القُبَّة والأبواب، واعمُرُوه بها! ففعلوا"، طبقا لسبط ابن الجوزيّ.
عناية متزايدة
نجد عند الإمام المؤرخ ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في "البداية والنهاية"- توثيقا لتاريخ انتهاء بناء قبة الصخرة، إذْ يقول: "لمّا كمل البناءُ كتبوا على القبة -مما يلي الباب القبلي من جهة الأقصى- بالنص بعد البسملة: "بَنَى هذه القبةَ عبدُ الله عبدُ الملك أميرُ المؤمنين سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية (72هـ/692م)"".

ومنذ ذلك الحين، والعناية بالمسجد الأقصى تكْبرُ وتزداد، حتى جزم العُليمي بتفوّق المسجد الأقصى على جميع مساجد عصره من حيثُ المساحة والعمران، فقد عقد فصلا بعنوان: "ذكر صفة المسجد الأقصى وما هو عليه في عصرنا"، فقال: "اعلم أن المسجد الأقصى الشريف.. ليس له نظير تحت أديم السماء، ولا بُني في المساجد صفته ولا سعته"!. وهو ما أكده قبل ذلك بقرن ونصف الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م)، فقد زار القدس ووصف الأقصى بأنه "ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه"!.

ولا عجب في جزمهما هذا، فمساحة المسجد الأقصى داخل السور القديم تبلغ 144 ألف متر مربع، وحتى خمسينيات القرن العشرين الماضي كانت مساحته أضعاف مساحة الحرمين الشريفين. فبحسب المعطيات الرسمية السعودية، فإن مساحة المسجد الحرام بمكة قبل سنة 1376هـ/1956م تقدر بنحو 28 ألف متر مربع، وأما المسجد النبويّ فإنّ مساحته قبل سنة 1372هـ/1952م كانت تزيد على 10 آلاف متر مربع بقليل، ثم لم يزل حال المسجدين في اتساع، وبقي الأقصى تحت الاحتلال الصهيوني على حاله حتى تجاوزاه.

أما على مستوى تعهده بأنواع الزينة والاحتفاء، فإن المسجدُ الأقصى زُيِّن -منذ بنائه- بأعدادٍ مهولةٍ من القناديل المعلّقة بسلاسل الذهب والفضّة متعددة الأحجام والأوزان، وظل الأمر كذلك حتى وقت متأخر نسبيا وهو القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي.
إذْ يذكر شمس الدين الأسيوطي (ت 880هـ/1475م) -في "إتحاف الأخِصّا بفضائل المسجد الأقصى"- أن فيه "من السلاسل للقناديل أربعمئة سلسلة إلا خمس عشرة، منها مئتا سلسلة وثلاثون سلسلة في المسجد، والباقي في قبة الصخرة، وذرْعُ السلاسل أربعة آلاف ذراع (الذراع = 53سم تقريبا)، ووزْنها ثلاثة وأربعون ألف رطل بالشامي (= نحو 1900 غرام)، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل"!.

وهذه القناديل من الذهب والفضّة لم تكن مجرّد إضاءة ولا زينة، بل كانت تُعدّ ثروةً في نفسها، لم يغفل الغُزاة عن قيمتها فانتهبوها في كل احتلال يبتلى به الأقصى والقدس الشريف. فأبو الفرج ابن الجوزيّ (ت 597هـ/1201م) يذكر مثلا -في "المنتظم"- أن الصليبيين حين احتلوا القدس والأقصى سنة 492هـ/1099م "أخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضة، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمئة درهم (= قيمتها اليوم 4500 دولار تقريبا)، وأخذوا تنور فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، وأخذوا نيفا وعشرين قنديلا من ذهب"!.
إدارة خاصة
أما قبة الصخرة، فقد بُذل لها -منذ انتهاء بنائها- من الرعاية الفائقة والخدمات الجليلة ما يليق بها، ومن ذلك تطييبها وتبخيرُها في مراسم غاية في الجمال والعجب، على أيدي فريقٍ من الموظفين خُصّص لخدمتها والعناية بها، فالإمام المؤرخ ابن كثير يحدثنا -في "البداية والنهاية"- أن عبد الملك بن مروان لما بنى قبة الصخرة خَصَّص "لها سَدَنَةً وخُدَّاماً".

ويخبرنا سبط ابن الجوزي -في مرآة الزمان- بأن فريق الإدارة هذا كان له زيٌّ رسميّ خاص به، ولعمله ترتيبٌ بالغ الدقّة والنظام، فيقول: "كان السَّدَنةُ -[في] كلِّ اثنين وخميس- يُذِيبون المِسْك والعنبر والماوَرْد والزَّعْفران، فيعملون منه غاليةً (طِيب) بماء الورد الجُوريّ (أجود أنواع ماء الورد)، ويُخَمَّر من الليل، ثم يدخلُ الخدمُ صُبْحةَ كلِّ يوم من هذين اليومين الحمَّام، فيغتسلون ويتطهَّرون، ثم يدخلون الخزانةَ التي فيها الخَلُوق (الطيب) فيخلعون ثيابهم، ويلبسون ثياب الوَشْي، ويشدُّون أوساطَهم بالمناطق المحلَّاة بالذهب".

ويضيف -متحدثا عن كيفية تطييبهم لقبة الصخرة- أنهم كانوا "يُخَلِّقُون (يطيِّبون) الصخرة، ثم يوضع البَخُور في مجامر الذهب والفضة، وفيها [العُود] القَمَاريُّ المَطْليُّ بالمسك، وتُرخي السَّدَنَةُ السُّتُور، فيستديرُ البَخُور على الصخرة كلِّها، فتعبَقُ الرائحة، ثم تُرفع السُّتور، فتخرج تلك الرائحةُ حتَّى تملأ المدينةَ كلَّها، ثم يُنادي منادٍ: ألا إنَّ الصخرةَ قد فُتحت، فمن أرادَ الزيارة فليأتِ! فيُقبلُ الناسُ مبادِرين إليها، فيُصلُّون ويخرجون، فمن وُجدت منه رائحةُ البَخُور، قيل: هذا كان اليومَ في الصخرة"!.

وظلت الصخرة ومسجدها محطّ اهتمام السلاطين فيما بعد، وازدادت العناية بها بعد تحريرها من الصليبيين، فقد أورد عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) -في "الفتح القِسِّي"- أنه قد "رتّب السلطانُ [صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م)] في قبة الصخرة إماما من أحسن القراء تلاوة، وأزينهم طلاوة، وأنداهم صوتا، وأسماهم في الديانة صيتا، وأعرفهم بالقراءات السبع بل العشر..، وقف عليه داراً وأرضا وبستانا، وأسدى إليه معروفا دارًّا وإحسانا".

ثم تحدث الأصفهاني عما رصده صلاح الدين من مقتنيات وإدارة لعمارة القبة والمسجد، فقال إنه "حُمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات، ورَبْعات (مصاحف موزّعة 30 جزءا) معظَّمات..، ورتّب لهذه القبة خاصة وللبيت المقدّس عامة قَوَمَةً (موظفين) لشمل مصالحها ضامّة، فما ترتب إلا العارفون العاكفون، والقائمون بالعبادة الواقفون، فما أبهج ليلها وقد حضرت الجموع! وزهرت (أضاءت) الشموع! وبان الخشوع! ودان الخضوع! ودرت من المتقين الدموع! واستعرت من العارفين الضلوع!". ولشدة الزحام والإقبال على قبة الصخرة والمسجد كان "أكثر الناس من يدرك أن يصلي ركعتين، وأقلهم أربعًا"، وفقا للعُليمي في "الأنْس الجليل".
معالم خالدة
أما أهمّ معالم الأقصى العمرانية، فإنه إذا ذكُر المسجد الأقصى اليوم فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو صورة "مسجد قبة الصخرة" المشرّفة الأزرق ذي القبة الذهبية، إلا عند العامة من أهل القدس فإنهم تنصرفُ أذهانهم إلى "المسجد القِبليّ" ذي القبة الرصاصية. والحقيقة خلاف هذا وذاك، إذْ يقول العُلَيمي إن "المتعارَف عند الناس أن الأقصى -من جهة القبلة- الجامعُ المبني في صدر المسجد الذي به المنبر والمحراب الكبير، وحقيقة الحال أن الأقصى اسم لجميع المسجد مما دار عليه السور".

وهذا الذي قاله العُليمي هو المعتمد اليوم عند المتخصصين، وصار معروفًا لكثيرٍ من العامّة بسبب التوعية المتكررة به. وفيما يلي محاولةٌ لوصف أهمّ معالم المسجد الأقصى بين الأمس واليوم، بالاعتماد على الوصف البديع التفصيلي الذي أودعه العُلَيمي كتابه "الأنْس الجليل":
1- المسجد القبلي: قال العُليمي في وصفه: "الجامع الذي هو في صدره (صدر المسجد الأقصى) عند القبلة، الذي تقام فيه الجمعة، وهو المتعارف عند الناس أنه "المسجد الأقصى"، يشتمل على بناء عظيم به قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة، وتحت القبة المنبر والمحراب، وعلى القبة "رصاص من ظاهرها" كما هو شكلها حتى الآن، وما زال هذا البناء هو المسجد المركزيّ، وفيه منبر صلاح الدين/نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) الذي عليه يقف الخطيب كل جمعة.

2- مسجد قبة الصخرة: وهو المسجدُ مثمّن الأضلاع ذو القبة الذهبية الشهيرة، وقد سبق ذكْرُ أنّ عبد الملك أمر بصبّ مئات آلاف الدنانير عليها، فكانت ذهبيّة فعلا لا مطلية بالذهب فحسب. ولئن كانت الجمعة لا تُقام في مسجد قبة الصخرة فإنه فيه كان "يُصلَّى العيدُ والاستسقاء" في العصر القديم، وفقا للعُليمي.

ويُفهم من كلام العُليمي وغيره أنه كان لمسجد قبة الصخرة إمام مستقلّ، فقد ترجم لغير واحدٍ بكونه "إمام مسجد الصخرة". أما الآن، فلا تُقام بمسجد الصخرة صلاة مستقلة، بل الصلاة فيه تبعٌ للصلاة في المسجد القبليّ، وعادةً تُصلي فيه النساء خصوصًا في الجُمَع والمواسم.

3- قبة السلسلة: في المسجد الأقصى قبابٌ كثيرة سوى القُبّتين الشهيرتين، وكلها أصغر حجما منهما. وأشهرها "قبة السلسلة" التي وصفها العُليمي بأنها "قبة في غاية الظرف على عُمُد من رُخام"، وقد بُنيت لتكون مجسَّما مصغَّرا لقبة الصخرة قبل بنائها، ولذا فهي "على صفة قبة الصخرة"، وفق تعبير العُليمي.

4- الأقصى القديم والمصلى المرواني: كلاهما يقع شرقيّ "المسجد القبلي"، أما "الأقصى القديم" فيقع تحت المسجد القبليّ من جهة المحراب، وإلى جواره يقع "المصلى المروانيّ". قال العُليمي: "وسُفْلَ (أسفل) المسجدِ -من جهة القبلة- مكان كبير معقود (مبنيّ)، وبه أسوار حاملة للسقف..، ويسمى هذا المكان السفلي: "الأقصى القديم"، وإلى جانب هذا المكان -أيضا سُفْلَ المسجد تحت الجهة التي بها الأشجار والزيتون- مكان عظيم معقود". وهذا المكان هو الذي يُعرف اليوم بـ"المصلى المروانيّ".
5- حائط البراق: وهو السور الغربيّ للمسجد الأقصى المبارك، يقعُ فيه "باب المغاربة" الذي يُعتقد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل منه المسجد الأقصى ليلة الإسراء "فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد"، طبقا لرواية الإمام ابن القيم (ت 752هـ/1351م) في "زاد المعاد". والسور الغربيّ للمسجد [حائط البراق] هو الذي يسميه الصهاينة اليوم "حائط المبكى".

6- الأبواب: للمسجد الأقصى -سوى باب المغاربة- خمسة عشر بابا، بعضُها مفتوح والآخر مسدود. وأشهر الأبواب المفتوحة: "باب السلسلة" و"باب السكينة"، اللذان يقول عنهما العُليمي: "ومنهما يخرج إلى الشارع الأعظم..، وهما عُمدة أبواب المسجد، وغالب استطراق (دخول) الناس إلى المسجد منهما"! ولا يزال هذا البابان على أهميتهما هذه، بل ازداد اعتماد الناس عليهما بعد إغلاق الاحتلال "باب المغاربة" منذ 1387هـ/1967م.

7- القناطر: أما القناطر فهي أحدُ أهمّ معالم الجمال في صحن قبة الصخرة المشرّفة، وقد وصفها العُليمي بقوله: "الصحن مفروش بالبلاط الأبيض، ويُتوصّل إليه من عدة أماكن من صحن المسجد، كلّ مكان به سُلّم من حجر، وعلى رأس السلم قناطر (أقواس) مرتفعة على عُمُد". وتُسمّى هذه القناطر في بعض الكتب "البوائك" جمع بائكة، وهي تحفة معمارية بديعة.

8- المَساطب: واحدتها مسْطبة، وهي أماكنُ مرتفعة عن الأرض بأقل من متر، ويُرتقى إليها بدرج وتُعقد فيها مجالسُ العلم عادة. وربما نظّمت فيها قديما الاجتماعاتُ العامة، فقد ذكر العُليمي نماذج لذلك كان أحدها حضوره اجتماعًا مهمًّا لكبار المسؤولين والعلماء عُقد "بالمسجد الأقصى على المسطبة الكائنة عند باب جامع المغاربة"، وذلك في ربيع الأول 879هـ/1474م لمناقشة مشكلة ثارت حينها بشأن "كنيسة اليهود بالقدس".

www.islamweb.net