في زمنٍ تتسارعُ فيه المناهج وتتزاحمُ الرُّؤى، وتغيبُ فيه بوصلة التَّلقي القرآني عند كثير من طلابِ العلم، تأتي هذه المقالة الموجزة لتعيد طرح السُّؤال الجوهري: كيف نُدرِّسُ القرآن في جامعاتنا؟
أقدِّم في هذه المقالة رؤية من الدَّاخل، أستدعي فيها تجرِبتي، وأكتبُ بمداد من عايش الدَّرس القرآني في رحلته الجامعية، أستعرضُ جملة من المعالجات التي أرى أنها ضرورية لردِّ الاعتبار إلى مركزيَّة الوحي، وربطها بأدوات الاجتهاد المعرفي الحديث، في محاولة لتجديد التَّكوين العلمي لطلابِ الدِّراسات القرآنية، واستعادة المعنى الحي للدَّرس الذي طالما خَفَت وهجه في قاعاتِ الجامعة.
النصُّ القرآني، عصيٌّ على الفناء، تحدَّى الزَّمن، وتجاوز الحدود، فحُفِظَ لفظًا، وبقي أثره ممتدًّا في العقلِ والوجدان، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلقُ على كثرةِ التَّرداد، ومن مظاهر هذا الخلود: استمرار الدَّرس فيه، وبذل العقول والجهود لاكتشاف معانيه، والتبحُّر في أسراره، وتوليد دلالاته، على اختلافِ الأزمنة والألسنة والمناهج.
وإنَّ من علاماتِ عناية الأمَّة بهذا النَّص الخالد، أن تخصَّصت دراسات قرآنية في أغلب جامعات العالم، شرقًا وغربًا، على تفاوت المشارب والغايات، لكن يخصُّنا الحديث هنا عن حالِ الدَّرس القرآني في الجامعاتِ العربية، حيث لا يزال الآلاف من طلابِ العلم يقبلونَ على هذا التَّخصُّص، شوقًا لفهمِ الوحي، وتعلُّمِ علومه، وتفكيك معانيه، وتوسُّلًا بالفهم إلى التَّلقي والتَّأثير.
غير أنَّ الواقعَ الجامعي يكشفُ عن فجوةٍ لا تخفى بينَ مركزية النصِّ القرآني في البناء الإسلامي، وهشاشة الأدوات والمنهجيات التي يُدرس بها، إذ يغلب على كثير من الجامعات العربية الجمود على طرائق تقليدية، تقف عند حدودِ التَّلقين، والتراكم المعلوماتي، وتدور حول كتبٍ مقرَّرة، استنفدت طاقتها، ولم تعد قادرة على تقديمِ المزيد، كما تفتقد القدرة على مساءلةِ النَّص أو استنطاقه.
لقد ظلَّت المقررات الجامعية -في معظمها- أسيرة كتبٍ ومناهج تجاوزها البحث، وأُصيبت بالعقم التربوي والعلمي، إذ لم تعد تُحفِّز عقلَ الطَّالب، ولا تنمِّي ملكته في التَّفسير أو التذوق أو النَّقد، بل تُكرِّسُ درسًا جامدًا لا يثمر فهمًا حيًّا ولا وعيًا متجدِّدًا، وإنما حشوًا لمعلوماتٍ لا تمكنه من التَّعامل المباشر مع النَّص القرآني.
ولأنِّي خضتُ هذا الدَّرس تلميذًا في سنواتِ الدِّراسة الجامعية، واطلعت على واقعِ جامعات شتى، فإنني أكتب من تجرِبة داخلية، وشهادة شاهد على ما يُلقى، ويُدرَّس، ويُتداول باسم علوم القرآن، في أقسام الدِّراسات القرآنية، حيث يغيب الاشتغال الحقيقي بالنَّص، وتحضر إجابات جاهزة، بلا سؤالٍ جاد، ولا همٍّ معرفيٍّ حي، وإن أقصى الهمِّ إنهاء الكتاب أو الملزمة المقررة!
وإنَّ أشدَّ ما يبعثُ على القلق، أنَّ بعض خريجي هذه الجامعات يفتقرونَ في الغالبِ إلى الإلمامِ بالاتجاهاتِ الحديثة في الدِّراساتِ القرآنية، سواء تلكَ التي نشأت في سياقنا العربي الإسلامي، أو التي تشكَّلت في الغرب الأكاديمي، ويزداد الأمر خطورة إذا ما علمنا أنَّ هذه الدراسات الغربية حافلة بمقاربات دقيقة، بعضها نقدي وبعضها مقارن، تسبر دلالة النص، وتستثمر أدوات متنوعة لفهم بنيته وسياقه.
ومن الضروري إدخال مقرَّرات جادة تعرِّفُ بالاشتغالِ الغربي على النَّص القرآني، منذ بدايات الاستشراق وحتى الاتجاهات ما بعد البنيوية، لا من بابِ الاحتفاء، والاندهاش، والتقليد، بل من بابِ المعرفة والنَّقد الواعي، فالطُّلاب لا يعرفونَ أنَّ ثمَّة دراسات مثل مشروع "موضعة القرآن" عند الألمانية أنجليكا نويفرت، أو مشروع "التَّحليل البلاغي البنائي" عند ميشيل كويبرس، أو الاتجاه التَّاريخي للنصِّ كما عند نولدكه، وغيرها كثير من الأطروحاتِ المهتمَّة بالدرسِ القرآني.
ولا بدَّ من إدراج دراسة معمَّقة عن "المدرسةِ العقليةِ المعاصرة"، بتياراتها ومفاهيمها، وتقاطعها مع مناهجِ الاستشراق، وقراءاتها المختلفة للنَّص القرآني، ومدى جدارتها أو انحرافها، ومراجعة ما طرحه بعض روادها من رؤى وتأويلات، لأنَّ تجاهلها لا ينفيها، بل يضخمها، والسُّكوت عنها لا يميتُ أثرها، بل يمنحها سلطة مضاعفة.
وبالمقابل، لا غنى عن تعميقِ التَّأصيل في علومِ القرآن وأصولِ التَّفسير، وتحريرِ المفاهيم، والقبض على أدوات الفهم، بالتَّمكن في علومِ اللغة، مع مراجعة النَّافع من مدوناتِ الفن، والإقبال على التُّراث التفسيري، وفهم سياقاته، ومعرفة مضمونه، ودفع الطَّالب للاشتباكِ معه لتزول حواجز الهيبة المضروبة بينَ الطَّالب وتراثهِ التَّفسيريِّ العريق!
وكذا استثمار ما جدَّ من دراساتٍ معاصرة، ومناقشتها، كما يجبُ تكريس وحدات للبحث في مقاصد القرآن الكلية، وهداياته، وفنونه البيانية، ونظمه المعجز، وبلاغته المدهشة، ليعيش الطَّالب لحظة التَّلقي الأولى، ويرى كيف كانَ النَّص يصوغُ النَّفس، ويقلبُ الموازين، ويغير المفاهيم، ويحررها من سطوةِ الزَّمن والعادات الضَّاربة في عمق تكوينه.
ويَحسُن أن يُدرَّب الطالب على مساءلةِ النَّص، لا نكرانًا، بل تلقيًا واعيًا حيًّا، يُعيد السُّؤال إلى مركز الدرس الذي لا يكتفي بفهم المعنى المباشر، بل يتوغَّل في حكمة التَّعبير، وأسراره، وتركيب السِّياق، وصلة المقطع بالسُّورة، والمعنى بالكون، والتلقي بالحياة.
وعلى هذا المحور، تبرز أهمية الدراسات البينية؛ لأنها تُعدُّ من الأدواتِ الفاعلة في إثراءِ الفهم القرآني، إذ تُمكِّنُ من دمج المعارف المتعدِّدة والنَّظريات العلمية المختلفة في تفسير القرآن الكريم، فالقرآن ليس محصورًا في بُعْدٍ لغويٍّ أو ديني فحسب، بل هو نصٌّ عالمي يمتلكُ القدرة على استيعاب المفاهيم الكبرى من شتى العلوم: من علم النَّفس والاجتماع إلى الفلسفة والعلوم الطبيعية. ولا أراني مخطئًا لو قلت: من بوابةِ الدِّراساتِ البَينية، يمكن اكتشاف طبقات جديدة من المعاني التي تعزِّز الفهم المعاصرِ للآياتِ الكريمة، وتبرز قدرتها الفائقة على احتواء الأفكار العميقة التي تلامسُ جميع جوانب الحياة الإنسانية، لتفتح آفاقًا جديدة في تفسيرِ القرآن وتقديمه كمرشد شامل يمتدُّ تأثيره عبر العصورِ والعلوم.
وإنَّ من أوجب الواجبات في صياغةِ مشروع إصلاح الدَّرس القرآني، إعادة ترسيخ مركزيَّة النصِّ في عقلِ الطَّالب وروحه، وتثبيت معيارية الوحي باعتبارها المصدر الأعلى للمعرفة، والمرجعية الحاكمة للفكرِ والسُّلوك، فإنَّ طالبَ الدراسات القرآنية الذي لا يتلقى القرآن بوصفه مصدرًا للهداية، ومعيارًا للحقيقة، لا يمكنه أن يثمر مشروعًا علميًّا أو تجديديًّا ذا أثر، لأنَّ حضور مركزية القرآن في تكوين الدارس، هو الذي يضبط مساره، ويهديه في مفترق المناهج، ويعصمه من الانبهار بلا وعي، أو النَّقد بلا بوصلة.
إننا لا نطلب من الدَّارسِ أن يُحيطَ بكلِّ شيء، فهذا عسير، ولكن نريد أن يتخرَّج وله إلمامٌ أفقيٌّ بأهمِّ المدارس والمناهج والتَّوجهات في حقلِ الدِّراسات القرآنية، ويُبصر خارطة هذا الحقل وتحوَّلاته، ثمَّ يختار وجهته، ويسلك سبيل التخصُّص العميق.
وإذا كانت الجامعات لا تملك القدرة على إعادة بناء المقررات فجأة، فبوسعها أن تفتح ورشًا بحثية، ودورات اختيارية، ومشاريع تخرُّج تستثمر هذه الرؤى، وتدفع الطالب للبحث والاكتشاف.
وفي الختام، فإنَّ الحاجة ملحَّة إلى إنشاء مراكز قرآنية بحثية تُعنى بتجديد الدَّرس القرآني، وتربط بين هدي الوحي ومعطيات الفكر المعاصر، وتُفعِّل أدوات التَّلقي العلمي، وتنفتح على المناهج الحديثة دون أن تفقد جذورها الأصيلة، أو تخضع لسلطتها، لتكون حاكمة على النص، وإنما القصد أن تكون خادمة له، ولعلَّ من واجب الجامعات اليوم أن تتفاعل مع هذه الرؤى، وتستثمرها داخل قاعات الدرس، لتستعيد اتصالها الحي بالنَّص، فيكون القرآن حيًّا في العقول، كما هو محفوظٌ في الصُّدور.
إننا لا نطلب سوى أن نُعيد للدَّرسِ القرآنيِّ في الجامعات روحَ السُّؤال، وحرارة الاكتشاف، وجمال التَّلقي، فالقرآن كتابٌ يُقرأ بالعقل، كما يُتلى باللسان، ومن لم يجعل له من نورِه دليلًا، تاه في ظلماتِ التقليد، وعجز عن بلوغ هدى النور الأول.