أرسل الله لنا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فعرفنا بالله، وأمرنا بتقواه، وما ترك من شيء يحبه الله إلا دعانا إليه وأمرنا به، وما ترك من شيء يبغضه الله إلا حذرنا منه ونهانا عنه.
وكان من أعظم ما نهانا عنه، وخوفنا منه، وحذرنا عقوبة الله فيه ـ بعد الكفر والقتل ـ "أكل الربا"... ذلك الوباء الخطير، والشر المستطير، الذي فشا في العالم، وملأ أرجاء الأرض، ولم تسلم منه بلاد المسلمين، وانتشر فيها انتشار النار في الهشيم، حتى علت بناياته، وارتفعت مناراته، وكثرت بين المسلمين دعاياته.. وتساقط الناس فيه تساقط الفراش في نار ليل الصحراء.. متناسين حرمته، ومتغافلين عن قبح مغبته، وحنظل ثمرته.
أقسام الربا وأنواعه
وأصل الربا في اللغة: هو الزيادة والنمو، مصدر ربا، يربو، إذا زاد ونما. قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}[الحج:5]. "أي ارتفعت وزادت عما كانت عليه قبل نزول المطر". ومنه أيضا قوله سبحانه: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ}[النحل:92] أي أكثر عددا وأزيد قوة.
والربا صوره كثيرة، وتطبيقاته لا حصر لها، ولكنها يجمعها في النهاية نوعان:
الأول: ربا الفضل، وهو ربا البيوع.. والثاني: ربا النسيئة، وهو ما يعرف بربا الديون.
أولا: ربا الفضل أو البيوع:
وهو "بيع مال ربوي بجنسه مع زيادة في أحد العوضين".. فالمال إما ربوي أو غير ربوي، فالربوي لا يجوز بيع جنس بجنسه إلا مع التساوي والتقابض.. ويكون في الأموال الربوية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلْحُ بالمِلْحِ.. مِثْلًا بمِثْلٍ، يَدًا بيَدٍ، فمَن زاد أوِ ازداد فقد أَرْبى؛ الآخِذُ والمُعْطِي فيه سواءٌ).
فهذه الأموال لما كان يسهل دخول الربا فيها، وضع لها الشرع هذه الضوابط سدًّا لذريعة الربا، فإذا اختلفت الأجناس جاز التفاوت إذا كانت يدا بيد.. قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا اخْتَلَفَتْ هذِه الأصْنافُ، فَبِيعُوا كيفَ شِئْتُمْ، إذا كانَ يَدًا بيَدٍ.
وقد كان هذا قديما شائعا، استعمال هذه الأشياء في صورة الأموال أو التبادل التجاري، وإذا كان هذا يكاد يكون غير موجود حاليا، إلا أن صورته بيع الذهب بالذهب عند الصاغة.. فيأخذ أحدهم عشر جرامات للصائغ مستعملة، فيغيرها له بخمس جرامات جديدة، فلا يكون مثلا بمثل.. أو يعطيه مقابل العشرة المستعملة عشرة جديدة ويأخذ فارقا من المال، فيكون قد زاد أو استزاد.. وهذا كله وقوع في الربا.
فإن قال قائل: الذهب القديم لا يساوي الجديد، وكذلك هذه الأشياء تتفاوت في قيمتها.. فكيف يكون الحل؟
نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامله على خيبر وقد جاءه بتمر جيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل.. بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)[رواه البخاري ومسلم].
أي بع تمرك الردئ بدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا جيدا.. وهكذا بائع الذهب ينبغي أن يفعل.
ثانيا: ربا النسيئة
وهو الذي يعرف بربا الديون، واصل النسء هو التأخير، فهو مال مقابل الزمن.. وهو: "اقتراض أو إقراض مبلغ من المال إلى أجل مع زيادة مشترطة حال العقد". كأن يقرض غيره أو يقترض منه مائة ألف على أن يردها بعد عام مائة وعشرة، أو سبعة أو أي زيادة كانت..
وهذا النوع كان الأكثر شهرة في الجاهلية، فقد كان الواحد منهم إذا كان له مال عند غيره وحل موعد القضاء يقول: "إما أن تقضي وإما أن أزيد لك في المدة وتزيد في المال".. أو يقول المدين: "أنظرني في المدة وأزيدك في المال". فما يزال الربا يزيد على المدين حتى يصير أضعافا مضاعفة فيهلكه ويفسد عليه حياته.
وأشهره في زماننا ما يحدث مع البنوك الربوية من قرض أو وديعة بفائدة إلى أجل.. وقد أجمعت الأمة والمجامع الفقهية على أن ربا البنوك حرام حرام، وهو عين الربا الذي حرمه الله في كتابه.
ومن المعلوم أن عمل البنوك الربوية هو الإقراض والاقتراض، فيقرض هذا بفائدة عالية، ويقترض من هذا بفائدة أقل، ويكون ربحه في الفارق بين الفائدتين، وكله ربا وسحت ونار تأجج في بطون آكليها.
الربا كله حرام
والربا بكل أشكاله وصوره حرام، غليظ الحرمة، حرمه الله على جميع الأمم، وفي جميع الأديان، وعلى مدار الأزمان.. وقد ثبتت حرمته بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين:
قال تعالى لبني إسرائيل: {فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}[النساء].
وقال سبحانه لأمة الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275]، وقال جل شانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ}[البقرة:278- 279].
وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، وأَكْلُ الرِّبا، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ).
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال عليه الصلاة والسلام: (لعن اللهُ آكلَ الرِّبا، ومُوكِلَهُ، وشاهِدَيْهِ، وكاتِبَهُ، هم فيه سواءٌ).
وعند الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثةٌ وسبعونَ بابًا، وأيسرُها مثلُ أنْ ينكِحَ الرجلُ أمَّهُ).. ومعنى الحديث: أن إثمُ الرِّبا على ثلاثةٍ وسبْعينَ درَجةً، "وأيسَرُها"، أي: أهوَنُ هذه الدَّرجاتِ وأدْناها في الإثمِ "مِثلُ أنْ يَنكِحَ الرَّجلُ أُمَّه"، أن أن ذَنْبُه يكونُ مُساوِيًا لمَن وقَعَ على أُمِّه ووَطِئَها.. وهي من أقبح صور التنفير، والتي تدل على عِظَمِ ذَنبِ الرِّبا وخَطرِه.
وإنما حرم الله الربا وشدد فيه أعظم التشديد لعظيم خطره، وكبير ضرره، وقد أجمع الاقتصاديون والمتخصصون وأثبتت وقائع الناس أن الربا خراب للبيوت، ودمار للشعوب، وضياع للأمم وحصر للأموال في أيدي فئة قليلة من الناس. ولقد كان ـ وما يزال ـ سببا من أكبر أسباب الاستعمار في هذا العصر الحديث.
حرب الله ورسوله
إن أكل الربا إنما هو بمثابة إعلان حرب على الله وعلى رسوله، فلقد آذن الله أكلي الربا بالحرب، إذا هم تعاملوا به ولم يمتنعوا عنه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ}[البقرة:278- 279].
إنه تهديد تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، وتذعر منه النفوس، مسكين والله هذا الإنسان يوم يكون بكل ضعفه وكل وهنه في مقف المحارب لجبار السموات والأرض، وحاله كما روى أحمد وابن ماجة عن بشر بن جحاش رضي الله عنه قال: (بزقَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ في كفِّه، ثمَّ وضعَ أصبعَهُ السَّبَّابةَ وقال: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ابن آدم! أنَّى تعجزني وقد خلقتُكَ من مثلِ هذِهِ؟)[صحيح ابن ماجه].
إنها حرب لا يُدرى جهتها ولا يعلم كنهها، هل هي في الأرزاق، أم في الأخلاق، أم هي حرب اجتماعية، أم اقتصادية، أم هي في كل الاتجاهات، إنه الهلاك الحقيقي.. كل هذا بسبب أكل الربا.
عقوبات دنيوية وأخروية
ولقد توعد الله آكل الربا بعقوبات في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة:
فأما في الدنيا:
.فقد توعده بالقلة والذلة والهلاك؛ فعن ابن مسعود، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ظهرَ في قومٍ الزِّنا والرِّبا؛ إلَّا أحلُّوا بأنفسِهِم عذابَ اللهِ)[رواه أحمد، وقال المنذري رواه أبو يعلى بإسناد جيد]
وقال صلوات الله عليه وسلام:(الرِّبا وإنْ كثُرَ، فإنَّ عاقِبتَه تَصيرُ إلى قُلّ)[رواه أحمد وابن ماجه]. وقال أيضا: (ما أحدٌ أكثرَ من الربا إلا كان عاقبةُ أمرِه إلى قلَّةٍ) [رواه ابن ماجة والحاكم وصححه]
وهذا مصداق قول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا]، أي يذهبه، إما بالكلية من يد صاحبه بالإفلاس أو بالمصائب التي تذهب المال، أو أن يحرمه بركته وبركة الانتفاع به.
وأما في البرزخ:
فأكلة الربا يعذبون في قبورهم، كما في حديث الرؤيا المشهور: قالَ النبي صلوات الله عليه: (فانْطَلَقْنا، فأتَيْنا علَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أنَّه كانَ يقولُ - أحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وإذا في النَّهَرِ رَجُلٌ سابِحٌ يَسْبَحُ، وإذا علَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قدْ جَمع عِنْدَهُ حِجارَةً كَثِيرَةً، وإذا ذلكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ ما يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتي ذلكَ الذي قدْ جَمع عِنْدَهُ الحِجارَةَ، فَيَفْغَرُ له فاهُ فيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ كُلَّما رَجَعَ إلَيْهِ فَغَرَ له فاهُ فألْقَمَهُ حَجَرًا قالَ: قُلتُ لهما: ما هذانِ؟ .... قالا له: هذا آكِلُ الرِّبَا.
وروي أن أكلة الربا منضدون "يعني مرصصون" على سابلة آل فرعون، يطؤونهم بأقدامهم وهم في طريقهم إلى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا.
عقوبة الآخرة
. أولا: أنهم يخرجون من قبورهم يصرعون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275].
أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له. قال ابن عباس: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق" "ابن أبي حاتم"، وقال قتادة: "إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا وذلك علم لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف". يعني يفضحهم بفعلهم هذا بين الخلائق يوم الدين.
قال الذهبي: "ذلك الذي أصابهم بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا أي حلالا، فاستحلوا ما حرم الله، فإذا بعث الله الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين، إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع كلما قام صرع لأنهم لما أكلوا الربا الحرام في الدنيا أرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم يوم القيامة فهم كلما أرادوا النهوض سقطوا ويريدون الإسراع مع الناس فلا يقدرون" [الكبائر:101].
. التوعد بعدم دخول الجنة: فعن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (أَرْبَعٌ حَقٌّ على اللهِ أن لا يُدْخِلَهُم الجنةَ، ولا يُذِيقَهم نَعِيمَها: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وآكِلُ الربا، وآكِلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حَقٍّ، والعاقُّ لوالِدَيْهِ)[النسائي وهو صحيح].
وختاما
فالربا من أكبر الكبائر، وهو من السبع الموبقات، وأضراره على آكليه وعلى الأفراد وعلى المجتمعات كثيرة وخطيرة، وعقوباته في الدنيا والآخرة عظيمة ووبيلة، ثم هو سبب لحرب الله تعالى على آكليه، وعلى المجتمع الذي ينتشر فيه.. فنسأل الله أن يحفظنا ويطهر بلاد المسلمين منه.