
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: يقول تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى:52).
لقد أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونوراً يهدي به البشرية، ويخرجها من ظلمات الشرك والجهل إلى نور التوحيد والإيمان.
أيها المسلمون: الأمم عبر التاريخ تتعلق برموزها وزعمائها، فتقيم لهم التماثيل، وتردد أسماءهم جيلاً بعد جيل، بينما قد يكون هؤلاء الطغاة سفاكين للدماء، أو غارقين في الظلم. أما نحن المسلمين فليس لنا إلا قدوة واحدة، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله لنا إماماً هادياً، وقدوة صالحة، قال تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً كر الله كثيرا} (الأحزاب:21).
لقد كان صلى الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، لكنه حمل القرآن في صدره كاملاً، وجاء بالسنة تبياناً لما في القرآن، فصار معلِّماً للعلماء، وقدوة للصلحاء، وإماماً للأتقياء، وأعظم من أنجبته البشرية جمعاء.
وُلد النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً، فقد توفي أبوه قبل ولادته، ثم ما لبث أن فقد أمه وهو في السادسة من عمره، فنشأ محروماً من حنان الوالدين، ليكون قلبه متعلقاً بالله وحده فحسب. ورأت أمه آمنة عند ولادته نوراً أضاءت له قصور الشام، فكان مولده بشارة خيرٍ للعالمين.
ونشأ في كنف جده عبد المطلب، ثم عمه أبي طالب، وحفظه الله منذ صغره من رجس الجاهلية، فما سجد لصنم، ولا شرب خمراً، ولا عُرِف عنه غش أو زور أو فجور. وكان يُلقب في قومه قبل البعثة بـ "الصادق الأمين".
وحين أخذته حليمة السعدية إلى البادية، رأت بركة الله تَحُلُّ في بيتها، فأمطرت السماء بعد جدب، وأينعت المراعي، وكثر اللبن. وقد رأت فيه طفلاً ليس كغيره من الأطفال، يخرج في الليل ينظر إلى السماء ويتفكر في النجوم. حتى إذا بلغ الرابعة، وقعت حادثة شق الصدر، حيث جاءه ملكان فشقَّا صدره، وغسلا قلبه بماء زمزم، وأخرجا منه حظ الشيطان، وملآه إيماناً وحكمة.
وكبر اليتيم، فكان مضرب المثل في مكة بالصدق والأمانة والعفاف. وحين اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود بعد إعادة بناء الكعبة، كاد النزاع يتحول إلى حرب، فاتفقوا على أن يحكم بينهم أول داخل، فإذا به يدخل عليهم، فأخذ الحجر ووضعه في ثوب، وأمر كل قبيلة أن ترفع طرفاً منه، ثم وضعه بيده الشريفة في مكانه، فارتضت به القبائل جميعاً، وعدّوا حكمه عدلاً وحكمة.
وكان عليه الصلاة والسلام كثير التفكر في ملكوت الله، فكان يخرج إلى غار حراء الليالي ذوات العدد، يتعبد ويتحنث، يبحث عن الحق، حتى جاءه جبريل بالوحي، وقال له: اقرأ. فأجابه: ما أنا بقارئ. وكررها ثلاثاً، ثم تلا عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق:1-3).
فارتجف قلبه، وعاد إلى زوجته خديجة رضي الله عنها، فقالت كلمتها الخالدة: كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ (الضعيف)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف (تُحسن إليه)، وتعين على نوائب الحق.
معاشر المسلمين: لقد بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته سرًّا، ثم جهر بها، فآذاه قومه، ورموه بالسحر والكهانة والجنون، وهو الذي عرفوه أميناً صادقاً! ومع ذلك صبر وصابر، وكان رحيماً حتى مع أعدائه، يدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. قال تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} (الأنبياء:107).
وتحمل الحصار في الشِّعْب ثلاث سنوات، عانى خلالها الجوع والعطش والحرمان، ورُميَ بالحجارة في الطائف حتى سال دمه، ومع ذلك رفع يديه قائلاً: (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" وقال: حديث مرسل.
وبعد ما لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه في مكة ما لاقى، عزم على الهجرة إلى المدينة، وكان قد أَرسلَ إليها من يمهد له الأمر فيها، وصَحِبَه في هجرته أبو بكر رضي الله عنه، ووصل إلى المدينة سالماً، واستُقبل استقبالاً حاراً. وأنشدوا في استقباله:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
عباد الله: إن في هجرته صلى الله عليه وسلم من الدروس البليغة، والعِبَر العظيمة، ما ينير الدروب، ويهدي القلوب، نقف مع شيءٍ منها:
الأخذ بالأسباب: النبي صلى الله عليه وسلم -وهو خير المتوكلين- اتخذ كل سبب ممكن للهجرة: اختار الطريق، واتخذ الدليل، واستأجر من يخفي الأثر، واختبأ في الغار، ثم توكل على الله.
ومن الدروس أن النصر مع الصبر: ثلاثة عشر عاماً في مكة من الصبر على الأذى، ثم جاء التمكين في المدينة. وهكذا سنّة الله، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:6).
وأن الصحبة الصالحة: تجلّت في موقف أبي بكر رضي الله عنه، الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "الصحبةَ يا رسول الله". وكان وفاؤه مثالاً خالداً.
وفي الهجرة تقديم العقيدة على الوطن: ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة، أحبُّ بلاد الله إليه، لأنها لم تعد تحتضن التوحيد، فدلَّ ذلك على أن الدين مقدَّم على كل شيء، (أما والله، لأَخْرُجُ منك، وإني لأعلم أنكِ أحبُّ بلاد الله إلي، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) رواه أبو يعلى في "مسنده" قال محقِّقه: رجاله رجال الصحيح.
معاشر المؤمنين: لقد خرج صلى الله عليه وسلم من مكة الضعيفة المحاصَرة، فقاد أمةً ملأت الأرض عدلاً وعلماً ونوراً. أذَّن المؤذنون في الشام والعراق واليمن ومصر والمغرب، ورفرف لواء الإسلام من قرطبة إلى السند والهند. بينما طغاة الأرض وزعماء الباطل زال ذكرهم، وماتت أديانهم المحرفة، وبقي الإسلام خالداً. قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد:17).
الشيوعية كانت تَعِدُ أتباعها بالمليارات، فانهارت في سنوات، بينما الإسلام يزداد قوة وانتشاراً بفضل الله؛ لأن الله تكفل بحفظه، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} (الحجر:9). وأخبر تعالى بإتمام نوره: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (الصف:8) وبشَّر بإظهاره على الدين كله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف:9).
الخطبة الثانية
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن، واستحضروا دوماً قوله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
أيها المؤمنون: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغلو فيه، فقال: (لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري. (لا تطروني) من الإطراء، وهو الإفراط في المديح، ومجاوزة الحد فيه. (كما أطرت النصارى ابن مريم) أي: بدعواهم فيه الألوهية وغير ذلك.
فواجبنا أن نحبه الحب المشروع، وأن نتبعه الاتباع الصادق، وأن نعرض سيرته للعالمين، في وقتٍ انشغل فيه الناس بزعامات زائفة ورموز فارغة، قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31).
وقال عزَّ من قائل: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} (الإسراء:71). فليختر كل إنسان إمامه في الدنيا، فإمام المؤمنين هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن سواه فإنما يتبع أئمة الضلال.
معاشر المسلمين: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس ذكرى عابرة، ولا قصة تاريخية، بل هو منهج حياة، قدوة في البيت، قدوة في السوق، قدوة في الحكم والجهاد، قدوة في الصبر والرحمة والعدل. من أراد السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، فليتخذه إماماً.
قال أحد الصالحين:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أُحدِّث عنك النفس بالسر خاليا
ألا وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.