الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، ورافع البلاء عن المستغفرين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله حق تقواه، فإن مَن اتقى الله حفظه ووقاه، ومَن سأله منحه وأعطاه، ومَن توكل عليه كفاه وآواه.
أيها المسلمون: دلائل وحدانية الله وآيات قدرته كثيرة، لا تُعدُّ ولا تُحصى، وشواهدُ عظمته وفيرة، لا تُحد ولا تُستقصَى.
ولكن القلوب عن آيات الله غافلة، والنفوس عن شواهد قدرته لاهية، والعقول عن دلائل عظمته شاردة، إلا من رحم الله.
إخوة الإسلام: هنالك نعمة من نعم الله، وآية من آياته، لا غنى للناس عنها، هي مادة حياتهم، وسبب بقائهم، منها يشربون ويسقون، ويحرثون ويزرعون، ويرتوون ويأكلون، تلكم هي نعمة الماء والمطر.
إخوة الإيمان: الماء أصل النماء الفائق على الهواء والغذاء والكساء والدواء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، مَن الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومَن الذي أنزله من سحائبه إلا الله؟!
{أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون} [الواقعة:68-70]. {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء:30]. {وأنزلنا من السماء ماء طهورا * لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} [الفرقان:48-49].
أمة الإسلام: إنه لا يَقْدُر هذه النعمة قَدْرَها إلا مَن حُرِمَها، تأملوا في أحوال أهل الفقر والفاقة التي تغلب على حياة من ابتلوا بالجدب والقحط والجفاف والمجاعة، سائلوا أهل المزارع والمواشي: في أي حالة من الضُّرِّ يعيشون، من قلة الأمطار وغور المياه، وهي سبب خصب مزارعهم وحياة بهائمهم؟!
أرأيتم يا من تنعمون بوفرة هذه النعمة: ماذا لو حُبِسَ الماء عنكم ومُنعتم القطر والمطر؟! هل تصلح لكم حال؟! وهل تدوم لكم حياة؟! {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} [الملك:30].
ومن حكمته تعالى ألا يديم عباده على حالة واحدة، بل يبتليهم بالسراء والضراء، ويتعاهدهم بالشدة والرخاء، {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء:35].
ومن ابتلاء الله لعباده: حبسُ القطر أو تأخيرُه عنهم، أو نزعُ بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروع والثمار.
معاشر المسلمين: إن للغيث أسباباً جالبة وأخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث؟! هل أخذنا بأسباب نزوله؟! أم قد نكون نحن بأفعالنا سبباً في منعه؟!
تعالوا بنا نعرض شيئاً من أحوالنا، لعلها تكون ذكرى نافعة، وسبباً في تقويم أوضاعنا على منهج الله، لنحظى برزقه الوافر الذي لا يُنال إلا بمرضاته، فالغيث جماع الرزق، قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف:96].
عباد الله: لنحاسب أنفسنا: عن حالنا مع تحقيق التوحيد والإيمان والتقوى؟!
ما ميزان الصلاة، وهي أعظم أركان أركان الإسلام بعد الشهادتين، والفارق بين الكفر والإيمان، وقد خف مقدارها، وطاش ميزانها عند كثير من الناس ؟!
وإذا سألت عن الزكاة المفروضة وإخراجها، ترى العَجَب من تقصير بعض الناس في أدائها، مع أنه سبب نزع البركة من الأموال، ومن أسباب منع القطر من السماء، قال صلى الله عليه وسلم: (ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) رواه ابن ماجه.
راجت المنكرات، وفشت المحرمات، وفي مجال المعاملات غشٌّ، وتزوير، وبخسٌ، ومماطلة، ورشاوى، ومعاملات مشبوهة، وتساهل في حقوق العباد.
ساد كثيراً من القلوب الحسدُ، والبغضاء، والحقد، والضغينة، والشحناء، حروب وحوادث، ومصائب وكوارث؛ فتن وبلايا، ظُلْم وإرهاب، وفوضى واضطراب.
عباد الله: إن شؤم المعاصي جسيم وخطير، يقول ابن القيم: وهل في الدنيا شر وبلاء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
الذنوب ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أمة إلا ألَمَّتْها؛ إنها تُقِضُّ المضاجع، وتدَع الديار بلاقع.
فاتقوا الله! واعلموا أن ما عند الله لا يُسْتَنْزَل إلا بالتوبة النصوح، يقول أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة).
عباد الله: لقد شكوتم إلى ربكم جدب دياركم، وتأخر نزول المطر عن بلادكم، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى محاسبة أنفسكم ومراجعة أعمالكم وما كسبت أيديكم {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم:41].
تضرعوا إلى ربكم، واستغفروه من ذنوبكم، يقول تعالى عن هود عليه السلام: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} [هود:52].
واستسقى عمر رضي الله عنه فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، قال: (لقد طلبتُ الغيث بمجاديح السماء التي يُسْتَنْزَل بها المطر) أراد الاستغفار.
فالاستغفار هو الدواء الناجع في حصول الغيث النافع.
ولا بد في الاستغفار أن يكون صادقاً. يفتح معه العباد صفحة جديدة من حياة الاستقامة، وإصلاحاً شاملاً في كل مرافق الحياة، ومع هذا كله ففضل الله واسع، وعفوه شامل، ورحمتُه وسعت كل شيء.
وما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجاً قال سبحانه : {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه:82].
الخطبة الثانية:
عباد الله: كان من سٌنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم بعدما يستغيث ربه أن يقلب رداءه، فاقلبوا أرديتكم اقتداءً بسنته صلى الله عليه وسلم، وتفاؤلاً أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، فأحسنوا الظن بربكم، ولا تقنطوا من رحمة الله، ارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيث منه، راجين لفضله، مؤمِّلين لكرمه، مُلِحِّين عليه بإغاثة القلوب، وسقي البلاد والعباد، ومتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وتضرعكم أغاث قلوبكم بالتوبة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وراحم المستضعفين، وجابر كسر المنكسرين!
نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم آنس قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً طبقاً عاماً واسعاً مجللاً نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ آجل.
اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهم أغثنا غيثاً مباركاً تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم إنَّ بالعباد والبلاد من اللأواء والجَهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك.
اللهم ارحم الشيوخ الركَّع، والبهائم الرتَّع، والأطفال الرضَّع.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على خاتم النبيين، وإمام المتقين، وأشرف المرسلين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والقحط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.