الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي خير الزاد لمن أراد النجاة يوم المعاد.
عباد الله: شاءت حكمة الله تعالى أن يكون قضاؤه في تجرع الموت بشدته وآلامه أمراً عاماً لكل أحد، مهما علت منزلته ودرجة قُرْبه من الله، حتى يدرك الناس أنه لو سَلِم من الموت أحدٌ، لَسَلِم منه خير البشر وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزمر: 30). وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، قضى منها أربعين قبل النبوة، وثلاثة عشر عاماً بعدها بمكة، وعشر سنين في المدينة المنورة بعد الهجرة..
فيا له من يومٍ أظلمت فيه المدينة المنورة، واهتزت له القلوب، وتصدعت له الأرواح..
كيف لا، وقد مات أفضل خَلق الله أجمعين، ومن أرسله الله رحمة للعالمين، وخاتما للنبيين..
مات الصادق الأمين، الذي أوصى باليتامى والنساء، وحنَّ على الأرامل والضعفاء..
مات الذي تحمل الأذى والحصار، وشُجّ وجهه، وتغرب وطُورد من أهله وعشيرته، ومع ذلك دعا لهم: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، آذاه قومه وحاربوه فلما أمكنه الله منهم قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)..
مات من بكى خوفًا على أمته، وقضى عمره يدعو إلى ربه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً ، حتى فارق الدنيا وشفَتاه تتحركان: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)..
فيالها من مصيبة نزلت بالأمة، ويا لحزنٍ لم تعرف القلوب له مثيلاً، يوم طُويت صفحة الوحي، وغاب وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم عن عيون أصحابه..
عباد الله: الأحداث الكبيرة يجعل الله لها مقدمات ودلائل، ولا شك أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر البشر، ولا كسائر الأنبياء، إذ بموته انقطعت النبوات، وانقطع وحي الله عن الأرض..
وقد كثرت الإشارات الدالة على قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)..
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبدًا خيّره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: "فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، فعجب الناس من بكائه، ولم يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وأن أبا بكر كان أعلمهم به.
وفي حجة الوداع خطب صلى الله عليه وسلم في الناس قائلا: (لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)، وفي ذلك إشارة لتوديع الأمة، وإعلام بقرب أجله..
ثم خطب في أصحابه في طريق عودته: (أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله وأهل بيتي)، فحثّ على التمسك بالقرآن، والوفاء بحق أهل بيته من بعده..
ابتدأ مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه بألم وصداع في رأسه، ولم يزل الصداع يشتد عليه حتى استأذن أزواجه أن يبقى في بيت عائشة رضي الله عنها فأذِنّ له، فخرج وهو بين رجلين تَخُطُّ رِجْلَاهُ في الأرْضِ إلى بيتها..
وتصف عائشة رضي الله عنها شدة ما كان يعانيه النبي من ألم المرض وسكرات الموت، فتذكر أنه كان بين يديه قرْبة من جلد مملوءة ماء، يغمس يده فيها، ثم يمررها على وجهه، ويقول : (لا إله إلَّا الله، إنَّ للمَوت سَكَرات)..
سكرات الموت أمرٌ مَحتوم، وحقٌّ لا مفر منه لكل نفس، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}(ق:19)، وهي تختلف شدّتها من إنسان لآخر، فتكون شديدةً على الكفار، خفيفة على المؤمنين، فالمؤمن تخرج روحُه بسُهولةٍ ويُسر، وقد تشتد أحيانا على بعض المؤمنين لرفع درجاتهم، كما كانت على نبينا صلى الله عليه وسلم، وذاك من تمام فضله، وكمال منزلته، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)..
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أتيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه، وهو يُوعَك وعْكًا شَديدًا، وقُلْتُ: إنَّكَ لَتُوعَك وعْكًا شَديدًا، قُلْتُ: إنَّ ذاك بأنَّ لك أجْرَين؟! قال: أَجَلْ، ما مِن مُسلِمٍ يُصيبُه أذًى إلا حَاتَّ الله عنه خَطاياه، كما تَحاتُّ ورَقُ الشَّجَر)..
لقد أراد الله الخير بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث ضاعف عليه شدة الألم، سواء في المرض أو في سكرات الموت، ليضاعف له الأجر يوم القيامة، وفي ذلك سلوى لكل مريض، وعزاء لكل مُبْتَلى، فصبرٌ جميل، وأجرٌ جزيل، وما عند الله خيرٌ وأبقى..
عباد الله: مات النبي صلى الله عليه وسلم، فأظلمت المدينة واضطربت، يصف أنس بن مالك رضي الله عنه مشاعر المسلمين في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسَنَ ولا أضوَأ مِن يومٍ دخَلَ علينا فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما رأيتُ يومًا كان أقبَحَ ولا أظلَمَ مِن يومٍ مات فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)..
ومن شدة المُصاب، اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش، ومنهم من أقعد فلم يستطع القيام ولا الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وقال: "إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى"، وكان من هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
وبلغ الخبر أبا بكر رضي الله عنه فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُغطى، فكشف عن وجهه، وأكب عليه، وقبل جبهته مرارا وهو يبكي، وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، "طِبْتَ حيّا وميتا يا رسول الله".
ثم دخل أبو بكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلم الناس وهم مجتمعون عليه، فتكلم أبو بكر وتشهَّد وحمد الله، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال: "مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وتلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144)، فاستيقن الناس كلهم بموته، وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر، فتلقاها الناس منه، فما يُسمع أحد إلا يتلوها"..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده..
أيها المسلمون: الموت حق على كل حيٍ، كبيراً كان أو صغيراً، ملكاً كان أو وزيراً، وإنما هي آجال مُقدّرة لا تتقدّم ولا تتأخّر.. فكل من عاش لابد أن يموت، حتى الأنبياء وهم صفوة الله من خلقه..
وقد مات صلى الله عليه وسلم وما ترك دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة..
وكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس، كان يوم وفاته أشد الأيام وحشة ومصابا على المسلمين، بل والبشرية جمعاء، إذ بموته انقطعت النبوات، وانقطع وحي الله عن الأرض..
ومع ما له من القدر والمنزلة العالية عند ربه سبحانه، فقد عانى شدة المرض وسكرات الموت، وهو أفضل خلق الله ورسله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ..
فاعتبروا وتفكروا، واستعدوا للقاء ربكم.
أيها الشباب: لا تغتروا بصحة أو قوة، فكم من شاب دفنه أبوه، وكم من شيخ عاش بعد أولاده..
ويا أبناء الأربعين والخمسين والستين والسبعين: تفكّروا فيما قدمتم وما أخرتم، فقد دنا الحصاد وانقضى العمر..
وختاماً: فإن في وفاة ووداع النبي صلى الله عليه وسلم، وكلماته الأخيرة التي سطر بها العظيم من الوصايا، ما يَفْتَح للقلوب أبواب الهداية، ويوقظ في النفوس معاني المحبة والاتباع..
وصايا نطق بها وهو في مرض موته، ليحيا بها المسلمون من بعده، وتكون لهم نبراساً يضي لهم الطريق ويهديهم سواء السبيل.
وسنقف بإذن الله تعالى في خطبتنا القادمة مع بعض هذه الوصايا النبوية، نستلهم منها الدروس، ونستضيء بأنوارها ومعانيها، في واقعٍ اشتدّت ظلمته، وكثُرت فتنته..
هذا، وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم كما أمركم ربكم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56)..
اللهم تب علينا توبة نصوحاً، واغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى.. اللهم اجعل حياتنا خيرٍا وبركة وفي طاعتك، واجعل خاتمتنا إلى رضاك وجنتك يا أرحم الراحمين..