
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأسبغ على خلقه من نعمه ما لا يُحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والسراج المنير، صلى الله وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد عباد الله: في زمنٍ قست فيه القلوب، وضاقت فيه الصدور، نحن أحوج ما نكون إلى فيضٍ من الرحمة يداوي الجراح، ويُنعش القلوب، ويغرس بين الناس جسور المودة والمحبة والإخاء.. فالناس اليوم في حاجةٍ إلى رحمةٍ تظللهم، وودٍّ يسعهم، وقلبٍ لا يضيق بهم، ولا ينفر من ضعفهم..
إن الإنسان بغير قلبٍ رحيمٍ، جسدٌ بلا روح ولا حياة، وآلةٌ لا تعرف الإحساس ولا العطاء.. فهيا بنا نفتح القلوب قبل الآذان، نعيش اليوم في رحاب الرحمة الواسعة، لنكون للناس عونًا، وللضعفاء سندًا، وللجراح بلسماً.
عباد الله: الرحمة هي تاجُ الفطرة، وزينةُ الطبع السوي، بها يرقّ الإنسان لآلام الناس، ويسعى جُهده لإزالتها، كما يأسى لخطاياهم فيتمنى لهم الهداية ويغفر الزلات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل اللهُ الرحمةَ مائةَ جُزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرضِ جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزءِ تتراحمُ الخلقُ، حتى ترفعَ الفرسُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه) رواه مسلم.
وربنا سبحانه هو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، متصف بالرحمة صفةً تليق بجلاله ولا تشبه صفات المخلوقين، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً}(غافر:7)، وقال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}(المؤمنون:118)، وقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(يوسف:64)، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي) رواه البخاري. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأةً تحتضن طفلها وتُرضِعه بحب وشفقة وحنانٍ عجيب، قال لأصحابه: (أَتَرَوْنَ هذِه المَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وَاللَّهِ وَهي تَقْدِرُ علَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَ) رواه مسلم.
والرحمة من الله للمؤمنين بقدر ما في قلوبهم وحياتهم من هدى وتقوى، وكلما ازداد العبد هدايةً وطاعةً لله، ازداد نصيبه من رحمة الله سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين}(يونس:57).
وبالرحمة أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وفتح لعباده أبواب الهداية والتوبة، وبها يُسكنهم دار رضوانه، ويغمرهم بنعمه، ويعافيهم في أبدانهم وأرواحهم، ويرزقهم من واسع فضله وإحسانه..
وبرحمته سبحانه أرسل خاتم أنبيائه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الرحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107)، بعثه ربُّه فسكب في قلبه من الرحمة والحلم، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والعطاء، ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وألينهم قلبا، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران:159)، وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128)، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إنما أنا رحمةٌ مُهداةٌ) رواه الحاكم.
وإذا كان ربنا سبحانه هو أرحم الراحمين، وقد بعث نبيَّه رحمةً للعالمين، فإن شريعة الإسلام ـ يا عباد الله ـ ما جاءت إلا لتفيض رحمةً على الخلق أجمعين..
فالإسلام رسالةُ خيرٍ وسلامٍ ورحمةٍ للبشرية كلها، والمسلم يلقى الناس وقلبُه يمتلئ بالرحمة والبر، يُوسّع للناس صدره، ويُخفف عنهم آلامهم، ويواسيهم في شدائدهم، لا يعرف قسوةً ولا غلظة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا قالوا: يا رسولَ اللهِ! كلُّنا رَحِيمٌ. قال: إنَّهُ ليس بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صاحبَهُ، ولَكِنَّها رَحْمَةُ العَامَّةِ) رواه الطبراني.
فليس المطلوبُ أن نقصرَ رحمتنا على من نعرف من قريبٍ أو صديق، بل هي رحمةٌ عامةٌ تمتد إلى كل إنسان، بل إلى كل كائنٍ حيٍّ على وجه الأرض، وهذا ما أكّده نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة، التي تُبرز عمومَ الرحمة وشمولَها، والحثَّ على نشرها بين الناس، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَن لا يَرْحَمُ النَّاسَ)، (مَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) رواه البخاري.
وفي هذا الحديث بروايتيه كما قال العلماء: الحضُّ على استعمال الرحمة مع الخلق كلِّهم، فيدخل فيها المؤمن والكافر، وتشمل الإطعام، وترك الأذى، بل ويدخل فيها الحيوان..
وما أعظمَ وأجمل الرحمة حين تتحول من القلوب إلى سلوكٍ في الواقع، وإحسانٍ في المعاملة، ولينٍ ورفق في القول والعمل، فتسعد بها الدنيا وتُرضي الله عز وجل..
واعلموا عباد الله: أن رحمة الله لا تُنال بالتمني، وإنما تستجلب بطاعة الله وطاعة رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ومن أعظم ما تُستجلَب به رحمة الله: الرحمة بعباده، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) رواه الترمذي.
فالراحمون الذين يرقّون للضعيف، ويحنّون على المسكين، ويعطفون على الصغير، هم مصدر خيرٍ وسلامٍ لمن حولهم، وهم أقرب الناس إلى رحمة الله..
وأولى الناس وأحقهم بالرحمة الأب والأم، قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}(الإسراء:24).
ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بهم، يقبّلهم ويدعو لهم بالرحمة، والمشاهَد أن في بعض الناس غلظة في قلوبهم مع أولادهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا بقوله وفعله إلى الرحمة بأبنائنا، فقد قبَّل الحسن والحسين رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه فقال الأقرع: (إنَّ لي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ ما قَبَّلْتُ منهمْ أحَدًا، فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) رواه البخاري، وجَاءَ أعْرَابِيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: (تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَما نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَ أَمْلِكُ لكَ أنْ نَزَعَ اللَّهُ مِن قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) رواه البخاري.
وأيضا الرحمة مع ذوي الأرحام، قال صلى الله عليه وسلم: (الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فقالَ اللَّهُ: مَن وصَلَكِ وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) رواه البخاري.
وكذلك الرحمة مع الخدم والضعفاء والمرضى والصغار، قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يَرحم لا يُرحم)، وكان أنس رضي الله عنه يقول: (خدمتُ النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط) رواه مسلم. وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: (كم نعفو عن الخادمِ؟ قال: اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً) رواه أبو داود.
ولا ننسى أبدا الرحمة مع المرضى وأصحاب الهمم، الذي اجتمع عليهم حر الداء مع مر الدواء، فيجب الرحمة معهم، والترفق بهم، والحذر كل الحذر من الاستهانة بمتطلبات راحتهم، أو الإساءة إليهم بقول، أو فعل، أو إشارة، فإن القسوة معهم جرمٌ عظيم..
وكذلك الرحمة مع الصغار والأطفال، وأهل الشيبة والكبار فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا) رواه أبو داود، وقال: (ليسَ منَّا من لم يرحَم صغيرَنا ويعرِفْ شرَفَ كبيرِنا) رواه الترمذي.
ولم تقف رحمةُ الإسلام ـ عباد الله ـ عند حدود الإنسان، بل تجاوزته إلى الحيوان الأعجم، والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، فديننا هو دين الرحمة، ونبينا نبي الرحمة، فقد غفر الله عز وجل لامرأة بَغيٍّ سقت كلبًا، وأدخل النارَ امرأةً حبست هرّة لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا كانت الرحمةُ بكلبٍ سببًا في الجنة، فكيف برحمةِ بني الإنسان!
فالرحمة ـ عباد الله ـ خُلُقٌ يجمع برّ الوالدين، وعطف الأبناء، وصلة الأرحام، وحسن المعاملة مع كل إنسان، وكل كائن حي، وهي طريق إلى رضا الرحمن وسعادة الدنيا والآخرة..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأسبغ على خلقه نعمه الظاهرة والباطنة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم..
أما بعد: معاشر المؤمنين:
الرحمة سعادة ونعيم، ونزعها من القلب عذاب وشقاء، وهي مفتاح القلوب، وجمال الأخلاق، وطريق إلى رضوان الله والسعادة في الدنيا والآخرة..
وبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتآلف النفوس، وأما القلوب القاسية، فهي تتبلد مع اللهو والمرح المستمر، فلا تشعر بحاجة محتاج، ولا تحس بألم متألم، ولا تشارك في إزالة بؤس بائس، ولا في مواساة حزين.. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فقال له: (أتحبُّ أن يلينَ قلبُكَ، وتدركَ حاجتَك؟ ارحَمِ اليتيمَ، وامسَح رأسَه، أطعِمْهُ من طَعامِك، يَلِنْ قلبُك، وتُدركْ حاجتَكَ) رواه الطبراني، وقِسْ على ذلك الفقراء وسائر الضعفة..
وختاما: اعلموا عباد الله أن الرحمة ليست شعورًا عابرًا أو صفة بلا فعل، بل هي سلوك دائم يزهر ويظهر في كل تعامل، مع الوالدين والأولاد والزوجة، والأقارب، والجيران، وكل من حولكم.. فالرحمة مع الوالدين والبر بهما سبب لنيل رضا الله، والرحمة مع الزوجة والأولاد يقوي أواصر الأسرة، والرحمة مع الناس تثمر تواصلاً وتكافلاً، يشيع الأمن والسكينة في المجتمع.
فتحلوا بالرحمة أينما كنتم، واشعروا بألم الفقراء والضعفاء وأصحاب البلاء، وكونوا لهم عونًا، ولتكن الرحمة شعاركم في القول والفعل، وتذكروا دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) رواه الترمذي.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56).