
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، وشهد أن لا إله الله وحده لا شريك، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأتقياء البررة، وعلى من سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم المعاد.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، التي هي الزاد وبها المعاد، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء:131).
أيها المسلمون: إن تقوى الله سبحانه حمت أولياء الله عن محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته .. استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل ففارقوا الكسل، ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وإن ملك الموت لموتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا تنسى جراحه، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل.
عباد الله: إن من العناء أن يجمع المرء ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا مالاً حمل، ولا بناءً نقل، فسبحان الله! ما أَغَرَّ قصور الدنيا، وأظمأ ريها، وأضحى فيئها! فلا جاءٍ يُرَدُّ، ولا ماض يرتد.
معاشر المؤمنين: إنه ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح؟ وكم من مزيد خاسر؟ ألا وإن الذي أُمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حُرِّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتسع.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله .. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
معاشر المسلمين: إن خير ما ألقي في الضمائر يقينٌ بالله يرسخ في القلوب كالرواسي، وإيمان صادق بكفاية الله لعباده، يدفعهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده...وعلى النقيض من ذلك! كثير من الناس ضَعُف فيهم اليقين بالله، فأرضوا الناس بسخط الله، وجاملوهم في معاصي الله، وتعلقوا بهم واشتغلوا عن ربهم رغبة منهم في نوال حطام الدنيا، أو خوفاً من سطوة ساط أو بغي باغ، فالحذر الحذر من مثل صنيع هؤلاء.
يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: "إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل وله إليه حاجة، فيقول له: أنت كيت وكيت، يثني عليه لعله أن يقضي من حاجته شيئاً، فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء"، ويقول حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نسأل الناس شيئاً" رواه مسلم، حتى إن الرجل من الصحابة ليسقط سوطه من على راحلته، فينزل فيأخذه لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
عباد الله! في أعقاب الزمن تتنكس الفطر، وتُدْرَس معالم الشريعة كما يُدْرَس وشي الثوب إلا ما شاء الله، وإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتنكرون حتى يأتي على الناس زمن ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، حتى أصبح الكتاب والسنة في الناس وليس فيهم، ومعهم وليس معهم، فاجتمع أقوام على الفرقة، وافترقوا عن الجماعة.
ألا فاعلموا -عباد الله- أن من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلاً هُدِي للتي هي أقوم، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون قدرته أن يستسلموا له، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبريء من ذي السقم، فالتمسوا الرشد من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق، قال جلَّ شأنه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24).
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله .. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
أيها المسلمون! الله سبحانه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات؛ ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لإدرار الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (نوح:10-12). قرأها الفاروق رضي الله عنه من على المنبر وهو يستسقي ثم قال: "لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر"، والمراد من الحديث أنه جعل الاستغفار استسقاء.
فرحم الله امرأً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته...جاء في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال أعوذ بالله أن تُدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما بأيدهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه.
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، وأمسك المطر، تقول: هذا لشؤم معصية ابن آدم".
أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
معاشر المؤمنين: ألا فاتقوا الله، واعلموا أن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تُظلكم مطيعة لربكم، فلا تمسكان بخلاً عليكم، ولا رجاء ما عندكم، ولا تجودان توجعاً لكم، ولا زلفى لديكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود الله مصالحكم فقامتا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11).
يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}"(الدخان:2).
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله .. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت.. أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
ألا وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.