
كنت في سنتي الجامعية الثالثة. قطعت نصف الطريق، وكنت أتهيأ للنصف الأصعب، حيث تتكثف التخصصات وتكبر الأحلام. حضرتُ حفل التخرج الذي تنظّمه جامعتي كل عام، وتخيّلت نفسي على المنصة بعد سنتين، ألوّح بشهادة اجتهدتُ من أجلها، وعيناي تبحثان عن عائلتي وسط الحشد. لكن كل ذلك انهار فجأة.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، انقلبت الحياة في غزة رأسا على عقب. توقفت الجامعات، وأُغلقت أبواب التعليم، وعلّق المستقبل نفسه على حافة الحرب.
التاسع من أكتوبر/تشرين الأول في خبر عاجل على شاشة الجزيرة، ظهرت صور لمباني الجامعة الإسلامية وهي تُقصف. كانت تلك اللحظة بداية الانهيار الحقيقي. رأيت سنواتي الجامعية تُدكّ أمامي، ولم أتمالك دموعي.
نزوحٌ لا ينتهي يسرق الطمأنينة
نزحنا في تلك الليلة من منطقتنا الخطرة، وبدأ فصل جديد من المعاناة: النزوح، البرد، الخوف، والحنين إلى سرير لم يعد موجودا.
في اليوم التالي، قُصف منزل جدي الذي لجأنا إليه، فنجونا بأعجوبة وانتقلنا إلى منزل عمتي.
أحد عشر يوما مرّت، خمس عائلات في شقة واحدة كنّا فقط نحاول النجاة. التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول، حين قُصف المنزل المجاور. خرجنا بين الدماء والأشلاء، نركض كما لو كنا داخل كابوس لا نهاية له.
في إحدى المدارس التي لجأنا إليها، نمتُ لأول مرة في مختبر الحاسوب. كانت الشاشات المطفأة تحدّق فينا بصمت، كأنها تسأل معنا: "كيف وصلنا إلى هنا؟".
الشتات لم يكن فقط في الأماكن. عائلاتنا تفرّقت، لم نعد نعرف أخبار بعضنا لشهور. كان الصمت يقتل أكثر من القصف، والغربة داخل البلد أقسى من الغربة في المنافي.
بعد هدنة مؤقتة، عدنا إلى منزلنا فوجدناه كما لو كان شاهِدا على جريمة: نوافذ مكسّرة، وغبار على الذاكرة، وجدران تحاول أن تهمس بما رأته.
لكن لم يكن هناك وقت للبكاء؛ لأن الحرب عادت في ديسمبر/كانون الأول، أقسى من ذي قبل. اضطررنا للنزوح من جديد، للمرة الرابعة، وكل مرة كانت أشد وجعا من سابقتها.
من فصول الدراسة إلى مأوى النزوح وطوابير المساعدات
لم تعد الجامعة أو المدرسة مساحة للتعليم، بل تحولت إلى مراكز إيواء طارئة. المدارس التي كانت ترعى الحلم تحولت فجأة إلى ملاذ للهاربين الذين لا مأوى لهم.
أما الأطفال فحالهم تبدّد بين طوابير تسلم المساعدات بدلا من طابور الصباح. صار همّهم الأول الحصول على وجبة ساخنة من التكية. مستقبل كامل يُستهلك في طوابير الطعام والماء، بدلا من الزمن المخصّص للتعلّم والانطلاق.
بصيص أمل وسط الركام.. التعليم الإلكتروني
في 28 يوليو/ تموز، وبعد أشهر من الدمار والتشريد، أعلنت الجامعة الإسلامية استئناف التعليم الإلكتروني. الإعلان كان أشبه بشعاع ضوء يتسلل من شق في جدار مظلم. لكن في الواقع، لم تكن هناك كهرباء، ولا إنترنت، ولا مقومات بسيطة لتصفّح منصة، أو تحميل ملف. ومع ذلك، حاولنا. دبّرنا أنفسنا بما توفر.
جلسنا على الأرض قرب بطاريات مشحونة بصعوبة، ننتظر التقاط شبكة إنترنت. كانت الدراسة ملاذا نحتمي به من القذائف.
وصلتُ إلى فصل التخرج- نعم، رغم كل شيء. سنتان من التعليم تحت الحرب، مليئتان بالأسئلة الصغيرة المؤلمة: ليش النت فصل؟ كيف أشحن اللابتوب؟ أكثر ما كان يؤلمني هو أنني لا أستطيع الدراسة من شاشة، كنت أحتاج المادة مطبوعة بين يديّ.
لكن الورق كان نادرا، وإن وُجد فثمن ورقتين يعادل دولارا، رفاهية حقيقية في زمن الخبز والماء.
كثير من الطلاب لا يملكون حتى رفاهية الإنترنت؛ يذهبون يوميا إلى المقاهي، ويدفعون من قوت يومهم ثلاثة دولارات فقط ليبقوا على اتصال بالتعليم.
مبادرات ساندتنا من بعيد
ورغم هذه الظروف، لم نكن وحدنا. في الخارج، أناسٌ ساندونا دون أن يعرفونا. مبادرات فردية ومنصات رقمية قدّمت لنا الدعم الحقيقي. ميرنا من منصة Connecting Humanity أرسلت شرائح إلكترونية تساعدنا على الاتصال بالانترنت، وفريق Gaza Online لم يتردد يوما في إيصال الشرائح بسرعة.
لم أكن لأصل إلى ما أنا عليه اليوم لولا دعم الأشخاص والمنصات الذين آمنوا بنا كطلاب.
محاولة متعمدة لاستهداف العقول
ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد حرب على الأرض أو البنية التحتية، بل خطة ممنهجة تستهدف المستقبل نفسه. آلاف الطلاب قُتلوا، ومئات الأساتذة استُشهدوا، وجامعات دُمرت. لم تشفع الحرب لأحد، بل تعمّد الاحتلال استهداف النخبة العلمية والأكاديمية.
الاحتلال يسعى لصناعة جيل محروم من التعليم، منقطع عن العالم لسنتين متتاليتين. لكنها فلسطين، الأرض التي أنجبت الأدباء والمهندسين والشعراء والكتّاب.
هذه الأرض لن تجفّ عقولها مهما اشتدّ القصف. كل قامة علمية يستهدفها الاحتلال سيخرج بدلا منها العشرات. لأننا نؤمن بأن العلم مقاومة، والمعرفة سلاح، والوعي هو ما يجعلنا شوكة في حلقه، يخشى الكلمة أكثر مما يخشى الرصاصة.
لا يمر يوم دون أن أستذكر الدكتور رفعت العرعير، صوت الشعر الإنجليزي في جامعتنا، الذي استشهد وهو يحمل في قلبه حبا صادقا لطلابه.
وكذلك الدكتور سفيان عبدالرحمن تايه، العالم في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، والرئيس السابق للجامعة الإسلامية، والذي صُنّف ضمن أعلى 2% من الباحثين في العالم.
لم يكونا مجرد أكاديميين، بل كانا رمزين للمعرفة والثقافة والصمود في غزة. رحيلهما جرح شخصي لنا كطلاب، لكنه أيضا محاولة متعمدة لإسكات الأصوات التي حملت قصة غزة إلى العالم.
على خُطا من رحلوا
حين زرت الجامعة الإسلامية خلال الهدنة القصيرة، بعدما اجتاحتها القوات البرية وأحرقت مبانيها، كانت رؤية القاعات التي حلمت أن أعود إليها وقد أصبحت رُكاما، دافعا لي لأكون أكثر إصرارا على استكمال المسيرة التعليمية.
وقد قطعت على نفسي عهدا بأن أحمل رسالة من رحلوا عنا، وأننا لن نُترك بلا تعليم، وأن ما بنوه لن يندثر، بل سيُكمل طريقه فينا.
رغم كل ما حدث، ورغم أن الحياة لم تكن عادلة معنا كطلاب بدأنا للتوّ أحلامنا، حصلتُ على معدل امتياز. لم يكن ذلك سهلا، بل نتيجة صبر طويل وتحديات لا تُحصى.
اليوم، أُدرّس طلابا حُرموا من مقاعدهم كما حُرمت أنا. أعمل وأُدرّس في آن واحد، وأحاول أن أكون امتدادا لصوت لم يُكمل رحلته.