المدرسة المستنصرية تحفة حضارية و معمارية

09/02/2005| إسلام ويب

تعد المدرسة المستنصرية التي أنشئت سنة 625 هجرية / (1227) ميلادية  ، على يد الخليفة العباسي المستنصر بالله في وسط مدينة بغداد من أقدم الجامعات العربية الإسلامية و  الآثار العلمية المهمة التي  قامت بتدريس الفقه الإسلامي حسب المذاهب الأربعة و خرجت الكثير من فطاحل العلماء في مختلف المجالات منذ إنشائها حتى يومنا هذا وقد تغيَّر اسمها من المدرسة المستنصرية إلى الجامعة المستنصرية التي كانت تستقبل الطلبة من مختلف الأقطار العربية للدراسة  فيها.

ولكن توقف هذا مع دخول قوات الاحتلال الأمريكي للعراق .

يقول عبد اللطيف المعاضيدي باحث فلكلوري في المدرسة المستنصرية: تبرز أهمية المدرسة المستنصرية كونها أول مدرسة مخصصة للمذاهب الإسلامية الأربعة، حيث كانت المدارس السابقة لها تختص كل منها بمذهب واحد أو مذهبين، وهي بذلك تهدف إلى جمع

الأمة الإسلامية وتوحيدها للوقوف أمام التيارات الفكرية المعادية وهكذا أصبحت مثالاً يحتذى به إذ لم تمض فترة وجيزة على إنشائها حتى تم بناء مدارس عديدة على غرارها. كما أن شروطها وقوانينها كانت نبراساً لما أقيم بعدها من مدارس.

وكانت هذه المدرسة مكاناً للعلماء والأدباء فقصدها الطلاب من جميع أنحاء العالم آنذاك فكان لها أثر كبير في الثقافة الاسلامية مثلت مجمعاً لمذاهب المسلمين ، وكان يُدّرَس فيها علم الأصول  والفروع .. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم الحساب والطب وغيرها من العلوم.

أما من حيث التخطيط والعمارة فإن المستنصرية ببناياتها ذات الساحة الواسعة المحاطة بالحجرات والغرف .. تمثل نظاماً متكاملاً اتبع في بناء كثير من المدارس فيما بعد.

أضاف المعاضيدي : إن المدرسة المستنصرية من الأبنية العباسية المشهورة وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها الخليفة العباسي المستنصر بالله الذي أنشأها في الجانب الشرقي من بغداد على ضفة نهر دجلة، حيث لا تزال قائمة إلى اليوم، وقد شرع المستنصر ببناء المدرسة في سنة 625 هـ (1227م) وتكامل بناؤها سنة 631 هـ (1234م) وأنفق على بنائها أموالاً كثيرة.

وحضر افتتاحها الخليفة بنفسه وقد نقل إلى خزانة الكتب في المدرسة آلافاً من الكتب النفيسة التي تحتوي على العلوم الدينية والأدبية وعين عليها طاقماً متخصصاً لترتيبها وتصنيفها.

أقسام المستنصرية

 

كانت المدرسة جامعة إسلامية كبرى تدرس فيها كل العلوم المعروفة في ذلك الوقت إضافة إلى تدريس فقه المدارس المذهبية الأربعة، وكان للمدرسة نظام دقيق لتحديد عدد المدرسين والطلاب الذين تستوعبهم المدرسة، وكانت الدراسة على نفقة الدولة.

وفي المدرسة أقسام عديدة للدراسة فإضافة إلى أقسام الدراسة هناك أقسام خدمية منها المخزن الذي يحفظ فيه المواد القرطاسية والأطعمة وهناك حمام ومزين (حلاق) للطلبة، إضافة إلى المطبخ الخاص للطعام.

وفي مدخل المدرسة المستنصرية أقيمت الساعة العجيبة التي أوردت أوصافها بعض المراجع العربية وكانت الساعة تعمل لإرشاد الناس على أوقات الصلاة وتعمل ليلاً ونهاراً وبأسلوب علمي متطور مما يدل على مدى ما وصل إليه العلماء العرب من تطور في ذلك الزمان.

وأكد: أن المدرسة قد أصابها الإهمال مما أدى إلى تصدع البناية وخاصة في زمن العثمانيين واستمر إلى سنة 1940 حيث كانت المدرسة عبارة عن خان كبير للقادمين إلى مدينة بغداد ويسمى (مسافر خانة) وهي كلمة تركية.

وكان هذا الخان محطة استراحة للمسافرين وخاصة العاملين في الوسائط النهرية للنقل و كان هؤلاء العاملون على هذه المركب جعلوا محطة استراحتهم في ذلك الخان والمسمى المدرسة المستنصرية.

 

وبعد سنة 1940 استطاعت دائرة الآثار استعادة المدرسة المستنصرية وإعادة صيانتها وقد تجددت هذه الصيانة في سنة 1960 التي استهدفت  إعادة أكبر قدر من بناية المدرسة إلى حالتها الأصلية لأن البناية تأثرت بالمياه الجوفية نظرا لوقوعها على ضفاف نهر دجلة بسبب انخفاض مستوى أراضيها بالنسبة للسوق المجاور لها، وهذا أدى إلى تعرضها إلى الرطوبة التي أخذت تؤثر في جدرانها وزخارفها، لذلك باشرت دائرة الآثار والتراث بحملة لإعادة صيانة المدرسة وتخطيطها الذي كان معمولاً به في زمن نشأتها. وشملها التوسع لتصبح مساحتها حوالي 4836 متراً مربعاً كما قامت دائرة الآثار والتراث بتأهيل الصحن المكشوف وهو على شكل مستطيل طوله (62.40) م وعرضه 27.40 متر إضافة إلى إعادة صيانة وإكساء بيت الصلاة (مسجد المدرسة). وكل هذه الأعمال جرت بآجر أصفر اللون جيد الصناعة ليعيد للمدرسة تاريخها وأصالتها القديمة وإنقاذها من العبث والتصدع الذي أخذ بالانتشار في أروقة أبنيتها، وخاصة بعد سقوط النظام السابق حيث أصبحت المستنصرية وكراً للمجرمين والخارجين عن القانون وقد سرقت منها بعض الكتب والمطبوعات، إضافة إلى الأضرار الواسعة التي أحدثها المجرمون

وقد  استطعنا أن نستعيدها بمساعدة أهل المنطقة والموظفين العاملين فيها وقد رممنا ما نستطيع ترميمه وأعدنا افتتاح المدرسة المستنصرية من جديد أمام الزوار والباحثين وطلاب الدراسات العليا إضافة إلى زيارة المدرسة من قبل الشبكات الاعلامية والمراسلين والصحافيين، وهي الآن بحاجة إلى دعم لإعادتها إلى صورتها الأولى وقد وعدونا في دائرة الآثار والتراث بإجراء صيانة شاملة لها في أقرب وقت ممكن بعد استتباب الأمن في بغداد.

 

تطور معماري

 

المهندس المعماري عمار سعد المختص بالبناء الإسلامي يقول: إن بناية المدرسة المستنصرية وزخارفها تدل على مدى التطور المعماري الذي وصل إليه كمال البناء في الزمن العباسي وخاصة الرسوم الزخرفية الموجودة على جدران وأروقة المدرسة المستنصرية وخاصة في المسجد في داخلها حيث استغل المعماريون العباسيون الموقع الجيد في إنشاء المسجد وخاصة السقف الذي بني على شكل قبة ومن دون إدخال حديد التسليح في عمله.

وإن هذا الموقع المميز يتيح الاستفادة من الصحن في تأدية الصلاة عندما يضيق بيت الصلاة بالمصلين.

 

وأضاف: إن المدرسة المستنصرية تحتوي على غرف كثيرة بنيت في طابقين وتحيط بالصحن ويبلغ عدد حجرات الطابق الأول (40) حجرة والثاني (36) حجرة.

وقد راعى البناؤون في ذلك العصر الحجم والمساحة للغرف إضافة إلى الشرفات الخارجة من هذه الغرف والمطلة على الصحن وأماكن التهوية ودخول الشمس وكل ذلك يدل على براعة الصناع العاملين في بناء المدرسة.

كما أن المسناة الممتدة على طول شاطئ دجلة المحاذي للمدرسة المستنصرية تدل على بعد نظر المهندسين الذين صمموا بنايات المدرسة لأن تلك المسناة قد استخدموها كطريق او ممر يسير عليه الناس.

وإضافة إلى الطريق النهري الذي استخدم للتنقل من وإلى المدرسة والحكمة الهندسية في إقامة المسناة هي لإسناد وحماية البناية من فيضان نهر دجلة حيث تم بناؤها بمادة الآجر وهي سميكة بما يؤمن تلك الحماية للمدرسة.

 

وأكد: على إن الزخارف المتنوعة تدل على ذوق فني رفيع، كما أنها تشير بوضوح إلى مدى النظام والتطور الذي حدث على الزخارف في تلك الفترة التاريخية سواء كان ذلك في صناعتها أو في الأشكال الزخرفية نفسها.

ويصعب الآن تقليد تلك الزخارف بشكلها الأصلي، وخاصة لو علمنا أنها مصنوعة من قطع الآجر “الطابوق”  وهو المادة المستعملة في البناء والمتوافرة في منطقة بغداد وبنوعية جيدة. وقد استطاع المعمار البغدادي الاستفادة من خصائص هذه المادة وتمكن من عمل أشكال متنوعة سواء من اختلاف أوضاع قطع الآجر نفسها أو نحتها وتقطيعها إلى أشكال متنوعة وبأحجام متباينة وفق خطة هندسية محكمة الصناعة تؤلف في مجموعها الشكل الزخرفي المطلوب، إضافة إلى حفر الزخارف على الآجر فيؤلف الاختلاف بين مستوياتها تباينا بين الضوء والظل يحقق وضوحاً وتجسيماً للعناصر الزخرفية.

وقد استعملت الزخارف الهندسية بكثرة في بناية المستنصرية ، وهي ذات أشكال متنوعة يعتمد معظمها على الدائرة وأقطارها وقد تم تنسيق هذه الأنواع من الزخارف الهندسية بطريقة تساعد على بسطها في مختلف المساحات والسطوح المعدة لها.

وأما الزخارف النباتية الشكل فنجدها في الغالب موضوعة داخل مساحات هندسية كالنجوم والمضلعات وأحياناً تظهر فوق أرضية الكتابات وبين حروفها.

 وقد أدى التطور المستمر لهذه الزخارف النباتية إلى ظهور  نوع من الزخرفة العربية الإسلامية تسمى (أرابسك).

وقد استطاع الفنان العربي أن يرتب تلك العناصر وخاصة في نقوش المدرسة المستنصرية القديمة ترتيباً جديداً مبتكراً وأن يخرجها بتنسيق فني رائع ويضيف عليها الطابع الاسلامي، فكانت هذه الزخرفة ابتكاراً عربياً إسلامياً أصيلاً في أساس تكوينة وفكرته.

 

في ظل الاحتلال

 

قيس راغب صاحب محل لبيع التحف بجوار المدرسة المستنصرية، يقول: تعتبر المدرسة المستنصرية أقدم الشواهد على الحضارة العباسية الاسلامية وقد بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله الذي كانت سيرته جيدة أثناء حكمه وكان يحب العلم والعلماء.

وقد ازدهرت هذه المدرسة في العصور العباسية الأخيرة فهي روعة في الفن والعمران الإسلامي وخاصة نقوشها الجميلة وطريقة بنائها إضافة إلى الساعة الموجودة في المدرسة.

وكان يأتي إليها الزوار العرب والأجانب إضافة إلى الهيئات الدبلوماسية لمختلف الدول وكان عملنا مزدهراً لأننا مجاورون لها فنحن نبيع التحف والآثار القديمة المقلدة.

وأضاف: بعد سقوط النظام السابق ودخول قوات الاحتلال إلى العراق.. تأثر عملنا وأصبح سوقنا فيه كساد دائم لعدم وجود زوار أو سياح عرب أو أجانب. وهذا حالنا وحال عشرات المحلات التي تعمل باختصاصنا والمنتشرة حول المدرسة المستنصرية وخاصة عند استيلاء مجموعة من المجرمين على المدرسة حيث قاموا بتحطيم الأبواب والنوافذ الزجاجية وجعلوها وكراً لهم ولمسروقاتهم التي جلبوها من مختلف دوائر الدولة مستغلين انعدام  الأمن والنظام وغياب الجهات الأمنية.

 

مجلة الصائم - جريدة الخليج بتصرف

www.islamweb.net