الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم قيام المحتسب بضرب صاحب المنكر باليد

السؤال

كان لي صديق من القرى المحافظة سليم الفطرة و(ذو بنية ضخمة) ذهب ذات مرة إلى المدينة وبالتحديد إلى الجامعة(حيث الاختلاط ولا يخفى عليكم حال أغلب الجامعات العربية) لقضاء شغله, فمر على شاب وشابة فوجدهما متلاصقين (يقبلها و....) إلى بعضهم البعض في ممر الناس, فهذا الصديق أخذته الحمية والغيرة فضرب الشاب برجله(كانشو)وضرب الشابه أيضاُ فهربا ,ثم أنكر عليه بعض الإخوان وقال له: تصرفك غير سليم كان الأفضل لك أن تحاورهما وتنهاهما بلسانك.مع العلم نحن في بلاد عربية توجد رجال آداب ولكن غير موجودين فعلاً(غير قائمين بدورهم البتة) فالجامعة مختلطة وتشمل عرض أزياء وفحش وغير ذلك.هل فعله هذا يشمله الحديث: من استطاع منكم أن يغير منكرا فلغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين العظيمة، وأعماله الظاهرة التي امتاز بها عن سائر الأديان، وله ضوابطه وشرائطه التي لابد من تحققها عند القيام بالأمر والنهي.

فجزا الله صديقك هذا خيراً على غيرته على دينه، ولكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ولكل مرتبة شروط.
الأولى: التغيير باليد وهي أقوى مراتب الحسبة، ومن أهم شروطها: القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من الاحتساب.
المرتبة الثانية: التغيير باللسان، وإنما ينتقل إليها إذا عجز عن اليد.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب، وهذا لا رخصة لأحد في تركه، بل يجب أن يكون بُغض المنكر وكراهيته في قلب كل مسلم، فآخر حدود الإيمان هو الإنكار بالقلب.
وحقيقة الإنكار بالقلب، عدم الرضا بالمنكر ومفارقته والنفور منه.
وعلى ذلك يشرع الإنكار باليد إذا لم تترتب مفسدة أكبر من الإنكار باليد.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده،

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته،

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله،

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة ......اهـ

وإن كان الأولى بصديقك أن يعظهما ويخوفهما بالله، أو أن يزيل المنكر بدون ضرب فلعل الله أن يهديهما على يده.

وعلى ذلك أيضاً ننبه الأخ السائل إلى أن الإنكار باليد إذا لم تخش منه مفسدة راجحة غير مختص بالسلطان وهو قول جمهور العلماء بل ادعى عيه الإجماع ابن عبد البر والجويني, وقد دلَّ على ذلك الكتابُ، والسُّنَّةُ: فقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: المقصودُ مِنْ هذه الآية أنْ تكونَ فِرْقةٌ من هذه الأمَّةِ مُتَصدِّيةً لهذا الشأنِ، وإن كان ذلك واجباً على كلِّ فردٍ من الأمَّةِ بحسبِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيدِه ..." ثم ساق الحديث.

وقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .

قال أبو بكرٍ الجصَّاصُ بعد أن ذكرَ طائفةً من الآياتِ في هذا الصَّددِ : فهذه الآي ونظائرُها مُقتضيةٌ لإيجابِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر، وهي على منازلَ أوَّلها تغييرُه باليدَّ ـ إذا أمكن ـ فإذا لم يمكن وكان في نفسِه خائفاً على نفسِه إذا أنكرَ بيدِه، فعليه إنكارُه بلسانِه، فإن تعذَّرَ ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبِه. اهـ.

إلى غيرِ ذلك من الآيات القرآنية

أمَّا السُّنَّةُ : فقد روى مسلمٌ عن طارقِ بنِ شِهابٍ قال: أوَّلُ من بدأ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ مَروانُ، فقامَ إليه رجلٌ فقال: الصَّلاةُ قبل الخُطبةِ. فقال: قد تُرك ما هُنالك، فقال أبو سعيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه -: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان. رواه مسلم . وقد دلَّ هذا الحديثُ على أنَّ لآحادِ الرَّعيَّةِ تغييرَ المُنكرِ بأيديهم من وجوهٍ.

منها: الوجه الأول: قولُه صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ ) وهي مِنْ صِيَغِ العُمُومِ، وذلك يعني أنَّ الخطابَ مُوَجَّهٌ إلى كُلِّ فردٍ من الأمَّةِ، وليس إلى طائفةٍ مُعَينةٍ منهم، ومن ادَّعى التَّخصيص فعليه الدَّليل !.

الوجهُ الثاني: قولُه صلى الله عليه وسلم : ( منكم ) والقائلُ هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو الحاكمُ، والمُخَاطَبُون بذلك هم الرَّعيَّةُ؛ فلو كان الذي يُغيِّرُ بيدِه هو الحاكمُ وحدَه لما عمَّمَ الحُكْمَ، بل خاطب صلى الله عليه وسلم الرَّعيَّةَ أجمع دون تخصيصٍ.

الوجهُ الثالث : قولُه صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم يستطعْ ) وذلك يقتضي أنَّ المُخَاطبَ بالأمرِ الأوَّلِ هو عينُه المُخاطبُ بالأمرِ الثاني وهو عينُه المخاطبُ بالأمرِ الثالث؛ فهو شَخْصٌ واحدٌ إن لم يستطعْ أن يُغَيِّرَ بيدِه فله أن ينتقل إلى البدلِ، وهو التَّغييرُ باللِّسانِ، فإن لم يستطعْ فله الانتقالُ إلى البدلِ وهو التَّغييرُ بالقلبِ، ويوضِّحُه أيضاً.

وفي شرح هذا الحديث يقول ابنُ رجبٍ - رحمه الله -: وهذا يدلُّ على جهادِ الأمراءِ باليدِ ... وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالح، فقال : التَّغييرُ باليدِ أنْ يُزِيلَ بيدِه ما فعلُه مِنِ المُنكراتِ، مثل أن يُريقَ خُمُورَهم، أو يَكْسِرَ آلاتِ الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبْطِلَ بيدِه ما أُمِرُوا بِه من الظُّلْمِ إن كان له قُدرَةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من بابِ قِتالِهم، ولا من الخُرُوجِ عليهم الذي وَرَدَ النَّهيُّ عنه، فإنَّ هذا أكْثَرُ ما يُخشى منه أن يَقْتُلَ الآمرَ وحدَه.

ونقل الإجماع ابنُ عبد البرِّ - رحمه الله - بقوله: وأجمع المسلمون على أنَّ تغيير المنكر واجبٌ على من قَدِرَ عليه، وإنَّه إذا لم يلحقه بتغييرِه إلاَّ اللَّوم الذي لا يتعدَّى إلى الأذى فإنَّ ذلك لا يجب أن يمنعه، فإن لم يقدرْ فبلسانِه، فإن لم يقدرْ فبقلبِه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبِه فقد أدَّى ما عليه إذا لم يسْتَطِعْ سوى ذلك.

وتراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 68944، 9358، 17092، 26058.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني