الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

السؤال

سؤالي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا كان المرء قد منَّ الله عليه بسلوك طريق الالتزام والتمسك بالدين قدر المستطاع، ولكنه يعيش في أسرة وعائلة لا تسلك نفس الطريق، أعلم تماما أن على المرء القيام بواجب النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وذلك عن علم بما يأمر به وما ينهى عنه، وبصيرة وفقه لأحوال الناس وواقعهم، وإخلاص لله عز وجل في طلب الهداية له وللخلق، وصبر على الناس، ولكن توجد بعض المشكلات، فمثلا: عندما تنهى الناس، أو عندما تنوي أو تريد أن تنهى الناس عن مشاهدة الأفلام والمسلسلات.. إلى آخره، تشعر أنك تتكلم من جزيرة أخرى أو من مكان بعيد جدا، أو أنك تنادي عليهم بصوت غير مسموع يعني أن القوم مستغرقون في ذلك بشدة تجعلك تشعر أنهم لا يرونك أصلا وأنت تتكلم، فعندما أحاول أن أنصح بترك منكر معين، أشعر أنني أتكلم من بعيد جدا وينتابني إحساس أنني تأخرت أو وصلت متأخرا، وأحيانا أقول إنه لا يلزمني أن يستجيب أحد، فأعتزلهم، وأغرق في اعتزالهم، وأحيانا أشعر أنني مقصر جدا في أداء النصيحة وأنها لو تمت المواظبة عليها باستمرار لأتت بنتيجة أفضل من هذا، خاصة لو استخدمت فيها وسائل متنوعة، والمشكلة تكمن في استغراق القوم بشدة لو حاولت أن تشرح مثلا ما هي البدعة، ولو بأسلوب مبسط، لنهيهم عن السقوط في بعض البدع، فإنك تفاجأ بالشعور وكأنك تتكلم بلغة أخرى وتشعر أن المسألة بعيدة عن الأذهان أصلا لقد تم تبسيط، ولا أدري هل تصف هذه الكلمة ما أقصده على نحو سليم أم لا، فالدين في أذهان القوم بشدة فلو نهيت أحدهم عن منكر، فإنه يقول في بساطة شديدة إنه سيفعله وأن الله سيغفر له، والمشكلة التي تواجهني فعلا هي أنني عندما أحاول أن أنهى أهلي عن شيء من المخالفات، يدفعني عن ذلك كوني أراهم أو أشعر أنهم أبعد بكثير من هذا الذي أقول، كأنهم في واد آخر تماما، وهناك سؤال آخر: هل يجب على المرء أن ينصح أو ينكر على كل مخالف يقابله في الطريق أو في المسجد أو في العمل أو في كل مكان؟ يعني مثلا عندما أصلي في المسجد، فالغالبية العظمى من المصلين حليقو اللحى ومسبلو الثياب، فهل يلزم نصحهم جميعا؟ وعندما تسير في الشارع أو في مكان عام أو حتى تصلي في المسجد، فكثيرا ما ترتفع بعض نغمات الجوال، وفيها الموسيقى أو الأغاني، فهل ينكر المرء على كل من يصدر منه ذلك؟ وهل يدخل المحلات لينكر على من يشغل فيها الأغاني؟ وماذا إن لم يعرف إن كانوا مسلمين أم نصارى؟ وهل يلزم أمرهم بالتوقف عن ذلك؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله أن يجعلنا وإياك أمَّارين بالمعروف نهَّائين عن المنكر، دعاة إلى الله على بصيرة، وأما ما ذكرت من كونك إذا نهيت الناس عن بعض المنكرات كأنك تتكلم من جزيرة أخرى، فتذكر قول الله تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {النساء: 94}.

واعلم أن أمر الهداية بيد الله تبارك وتعالى فاضرع إليه، وحذاري أن تشعر أنك خير من المنصوح، أو تستبعد عنه المغفرة، قال تعالى: يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ {العنكبوت:21}.

ولما رأى رجلُ رجلاً مصراً على المعاصي قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى ـ أي يحلف ـ علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك. رواه مسلم.

وحاول تنويع وسائل الدعوة، فليس الأمر مجرد ذكر التحريم، ولكن يحتاج إلى ترغيب وترهيب، فقد روى البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا....

وننصحك بمراجعة الفتويين رقم: 182065، ورقم: 93857، ففيهما بعض الوسائل المفيدة في هذا الباب.

وأما بخصوص الاعتزال أو الاستمرار: فعن أبي أميَّةَ الشَّعبانيِّ قال: سألتُ أبا ثعلبةَ الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيفَ تقولُ في هذِهِ الآيةِ: عليْكم أنفسَكم؟ قالَ أما واللَّهِ لقد سألتَ عنْها خبيرًا سألتُ عنْها رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: بلِ ائتمروا بالمعروفِ وتناهوا عنِ المنْكر حتَّى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا وَهوًى متَّبعًا ودنيا مؤثرةً وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيِهِ فعليْكَ يعني بنفسِكَ ودع عنْكَ العوامَّ. رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وضعفه الألباني.

وقد ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، وذكر معه أحاديث وآثارا أخرى في معناه، ثم قال: وهذا كلُّه قد يُحمل على أنَّ من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضَّرر، سقط عنه، وكلامُ ابن عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه، لم يجب عليه، كما حُكي روايةً عن أحمد، وكذا قال الأوزاعيُّ: مُرْ من ترى أنْ يقبلَ منك. انتهى.

فإذا غلب على ظنك عدم انتفاعهم بالنصح جاز تركه، واعتزالهم في هذا المنكر، وللفائدة فهاتان الفتويان فيهما ذكر بعض ضوابط إنكار المنكر، وهما برقم: 131498، ورقم: 124424.

وللمزيد من الفائدة حول نصح الوالدين ـ إن كانا من ضمن أهلك المشار إليهم ـ تراجع الفتوى رقم: 18216.

وأما قول بعضهم: إنه سيفعله وأن الله سيغفر له ـ ففيه جرأة على الله، بل لو قال سأفعله ثم أتوب لكانت جرأة محرمة، كما بيناه في الفتوى رقم: 188365.

ومثل هذا يحتاج إلى نوع من الترهيب، فقد ذم الله قوماً فقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {الأعراف:168ـ 169}.

قال ابن كثير: وقول مجاهد في قوله: يأخذون عرض هذا الأدنى ـ لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حراما، ويتمنون المغفرة، ويقولون: سيغفر لنا ـ وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه، وقال قتادة في: فخلف من بعدهم خلف ـ أي: والله، لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات {مريم:59} قال: يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ـ تمنوا على الله أماني وغرة يغترون بها: وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ـ لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من أمر الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالا كان أو حراما. انتهى.

وأما مسألة لزوم النصيحة في كل منكر يراه الإنسان في طريقه، أو في المسجد: فقد بينا في الفتوى رقم: 197429، أن الأصل هو لزوم الإنكار.

جاء في فتاوى العلامة ابن باز رحمه الله: إنكار المنكر حسب الطاقة ـ إنني فتاة أسكن في السكن الداخلي مع الطالبات وقد هداني الله إلى الحق وأصبحت متمسكة به ـ ولله الحمد ـ لكنني متضايقة جدا مما أرى حولي من بعض المعاصي والمنكرات خصوصا من بعض زميلاتي الطالبات كسماع الأغاني، والغيبة والنميمة، وقد نصحتهن كثيرا ولكن بعضهن يهزأ بي ويسخر مني ويقلن إنني معقدة، سماحة الشيخ: أرجو إفادتي.. ماذا أعمل جزاكم الله خيرا؟ ج: الواجب عليك إنكار المنكر حسب الطاقة بالكلام الطيب والرفق وحسن الأسلوب، مع ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك حسب علمك، ولا تشاركيهن في الأغاني ولا في الغيبة ولا في غيرها من الأقوال والأفعال المحرمة، واعتزليهن حسب الإمكان حتى يخضن في حديث آخر، لقول الله سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ { سورة الأنعام الآية: 68} ومتى أنكرت بلسانك حسب الطاقة واعتزلت عملهن لم يضرك فعلهن ولا عيبهن لك، كما قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { سورة المائدة الآية: 105} فأبان سبحانه أن المؤمن لا يضره من ضل إذا لزم الحق واستقام على الهدى، وذلك بإنكار المنكر، والثبات على الحق، وحسن الدعوة إليه، وسيجعل الله لك فرجا ومخرجا وسينفعهن الله بإرشادك إذا صبرت واحتسبت ـ إن شاء الله ـ وأبشري بالخير العظيم والعاقبة الحميدة ما دمت ثابتة على الحق منكرة لما خالفه، كما قال الله سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {سورة الأعراف الآية: 128} وقال عز وجل: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ {سورة هود الآية 49} وقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {سورة العنكبوت الآية 69} وفقك الله لما يرضيه، ومنحك الصبر والثبات، ووفق أخواتك وأهلك وزميلاتك لما يحبه ويرضاه، إنه سميع قريب، وهو الهادي إلى سواء السبيل. انتهى.

وطالما أنك سمعت صوت الغناء من المحل، فقد رأيت المنكر، فتدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.

قال ابن رجب: وَلَوْ سَمِعَ صَوْتَ غِنَاءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَعَلِمَ الْمَكَانَ الَّتِي هِيَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُنْكِرُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْمُنْكَرَ وَعَلِمَ مَوْضِعَهُ، فَهُوَ كَمَا رَآهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. انتهى.

وراجع الفتوى رقم: 23077.

وقولك: ماذا إن لم يعرف إن كانوا مسلمين أم نصارى؟ جوابه: أن الأصل في بلاد المسلمين أن أهلها مسلمون، فكيف تعدل عن هذا الأصل؟! كما يشرع للمسلم ابتداء الناس بالسلام بناء على أن الأصل في الناس الإسلام في دار الإسلام.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني