الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أضواء على الحب في الله تعالى والبغض في الله

السؤال

هل يأثم المرء على حب شخص آخر ـ كصديقه مثلاً ـ الأحسن خلقاً والأقل ديناً من إنسان آخر؟ لو كان لي صديقان أحدهما دينه وعبادته لا بأس بها ولكن أخلاقه عالية، وصديق آخر دينه وعبادته أفضل بصورة عامة ويحفظ القرآن لكنه سيء الخلق، فهل أنا آثم على حب الأفضل خلقاً والنفرة من سيئ الخلق؟ وماذا عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أوثقُ عُرَى الإيمانِ: الموالاةُ في اللهِ، والمُعاداةُ في اللهِ، والحبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ عزَّ وجلَّ ـ الراوي: عبدالله بن عباس وابن مسعود والبراء بن عازب، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع الصفحة أو الرقم: 2539، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
سؤال آخر: كيف يكون الحب في الله تعالى والبغض في الله حقيقة؟ وكيف نطبق الحديث السابق وغيره كالحديث التالي: يا أيها الناسُ! اسمعوا، واعقِلوا، واعلموا أنَّ لله عزَّ وجلَّ عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبِطهم النَّبيّونَ والشُّهداءُ على منازلِهم وقُربهم من اللهِ فجثَى رجلٌ من الأعرابِ من قاصيةِ الناسِ، وأَلوى إلى النَّبيِّ فقال: يا رسولَ اللهِ! ناسٌ من الناسِ ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبِطهم الأنبياءُ والشهداءُ على مجالسِهم وقُربهم من اللهِ، انعَتْهم لنا، جلِّهِم لنا ـ يعني صِفْهم لنا، شكِّلْهم لنا ـ فسُرَّ وجهُ النَّبيِّ بسؤالِ الأعرابيِّ، فقال رسولُ اللهِ: هم ناسٌ من أفناءِ الناسِ ونوازعِ القبائلِ، لم تَصِلْ بينهم أرحامٌ مُتقاربةٌ، تحابُّوا في اللهِ وتصافَوا، يضع اللهُ لهم يومَ القيامةِ منابرَ من نورٍ فيجلِسون عليها، فيجعل وجوهَهم نورًا، وثيابَهم نورًا، يفزع الناسُ يومَ القيامةِ ولا يفزِعون، وهم أولياءُ اللهِ لا خوفَ عليهم ولا هم يحزَنون ـ
الراوي: أبو مالك الأشعري: المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم: 3027، خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره.
وجزاكم الله تعالى خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه لا يأثم المرء بحبه لحسن الأخلاق أكثر من حبه للمتدين السيئ الخلق، لأن التفضيل في الحب إنما وجب في حب الله تعالى ورسوله، كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {البقرة:165}.

وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24}.

قال البيهقي في الشعب: أبان بهذا أن حب الله ورسوله فرض. اهـ.

وقال القرطبي في التفسير: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ. اهـ.

وقال السعدي في التفسير: وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله.

وفي الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. متفق عليه.

وفي الحديث: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. متفق عليه.

ثم إن خير الحب ما كان في الله ولله، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أسباب وجود حلاوة الإيمان, محبة المرء لله فقط، وهو أوثق عرى الإيمان؛ كما في الحديثين اللذين ذكر السائل، وعلامة هذا الحب وكيفية تطبيقه أن يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فالذي ينبغي للمسلم هو أن يجعل حبه لله، وفي الله، فيحب المؤمنين من أجل دين الله وطاعته وامتثال أوامره لا لمصلحة دنيوية أو قرابة، ويبغض العاصين بسبب معصيتهم بقدر معصيتهم، ويبغض الكافرين ويتبرأ منهم، ففي حديث الصحيحين: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.

وفي حديث أبي داود: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. فذكر منهم: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل. رواه الطبراني، وصححه الألباني.

قال صاحب تحفة الأحوذي: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، أي يحبه لغرض وعرض وعوض، ولا يشوب محبته حظ دنيوي ولا أمر بشري، بل محبته تكون خالصة لله تعالى، فيكون متصفا بالحب في الله، وداخلا في المتحابين. انتهى.

وقال المناوي: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، أي لا يحبه لغرض إلا لغرض رضا الله، حتى تكون محبته لأبويه، لكونه سبحانه أمر بالإحسان إليهما، ومحبته لولده لكونه ينفعه في الدعاء الصالح له وهكذا.

وقال أيضا عند شرح حديث أبي داود: من أحب وأبغض وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان ـ من أحب لله: أي لأجله ولوجهه مخلصا لا لميل قلبه وهو نفسه، وأبغض لله لا لإيذاء من أبغضه له، بل لكفره أو عصيانه، وأعطى لله أي لثوابه ورضاه لا لميل نفسه، ومنع لله أي لأمر الله كأن لم يصرف الزكاة لكافر لخسته، وإلا لهاشمي لشرفه، بل لمنع الله لهما منها. انتهى.

وقال أيضا: أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله لا لغيره، فيحب أهل المعروف لأجله لا لفعلهم المعروف معه، ويكره أهل الفساد والشر لأجله لا لإيذائهم له. انتهى.

هذا؛ ونحذر من سوء الخلق لما يجره من تنغيص المحبة الربانية بسبب ما قد يصدر من صاحب الخلق السيئ في تعامله مع الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:........ وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل. حسنه الألباني.

وإذا آذاهم أو ظلمهم أو اعتدى عليهم كان ذلك موجبا لغضب الله عليه وتوعده بالنار، فقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها! قال: هي في النار، قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في الجنة. وحسنه الأرناؤوط.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. رواه مسلم في صحيحه.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني