الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشهر مسألة عقدية خالف فيها الطحاوي مذهب السلف

السؤال

لقد قلتم في فتوى سابقة عن العقيدة الطحاوية إن فيها اليسير من المخالفة لمنهاج أهل السنة والجماعة مثل الإيمان.
فهل يمكن إيضاح هذه المخالفات، وبيان الصواب فيها لو تكرمتم؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأهم وأشهر هذه المسائل هي مسألة الإيمان، حيث يقول الطحاوي ـ رحمه الله ـ: الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان .. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية، والتقى .. اهـ.
فههنا أخرج العمل من مسمى الإيمان، وجعل الإيمان شيئا واحدا! وهذا خلاف مذهب السلف، من أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، وأنه يزيد وينقص. وبالتالي يتفاضل أهله فيه.

قال الشيخ صالح آل الشيخ في (شرح الطحاوية): هذه العقيدة التي ذكرها الطحاوي - رحمه الله - بنيت على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وهؤلاء عند أهل الحديث والأثر وافقوا السنة والجماعة في أكثر المسائل، لكنهم خالفوهم في أصل عظيم من أصول الدين ألا وهو الإيمان؛ ولهذا أطلق عليهم مرجئة الفقهاء. فهم مرجئة؛ لأن كلامهم في الإيمان كلام المرجئة؛ لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا: (إن أهله في أصله سواء). وقيل لهم: مرجئة الفقهاء؛ لأنهم فقهاء، اشتهروا بذلك. فإذن يظهر من هذا التقديم أن هذا المؤلَّف مبني على كلام أهل السنة والجماعة بعامة، وعلى مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان بخاصة. وهذا هو الواقع فعلا؛ فإن كلامه في الإيمان هو كلام المرجئة ... ومسألة الإيمان من مسائل الأصول العظيمة، فلا يكون من نفاها - أي نفى دخول العمل في مسمى الإيمان - على طريقة أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر؛ لمخالفة قولهم للنصوص الكثيرة الدالة على أن العمل من الإيمان. اهـ.
وقد علق الشيخ الألباني على عبارة الطحاوي بقوله: هذا مذهب الحنفية، والماتريدية، خلافاً للسلف، وجماهير الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان. وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً كما ذهب إليه الشارح - رحمه الله تعالى- بحجة أنهم جميعاً اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة، والآثار السلفية على ذلك، وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها، ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراً، بل باطلاً ... ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد منهم أن يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين، وجبريل، وميكائيل عليه الصلاة والسلام! كيف وهم بناء على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم - مهما كان فاجراً فاسقاً - أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول: أنا مؤمن حقاً! والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:2-4] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}. [النساء:22]. اهـ.
فهذا أشهر ما خالف فيه الطحاوي مذهب السلف.

قال الشيخ الدكتور ناصر العقل في (شرح الطحاوية): الطحاوي- رحمه الله- من السلف، وقرر عقيدة السلف، إلا أنه فيما يتعلق بمسائل الإيمان رأى أن الخلاف بين المرجئة الذين ينتمي إليهم في مذهبه الفقهي - وهم الأحناف - وبين أهل السنة، خلاف لفظي؛ فكأنه أراد أن يتوسط في استعمال الألفاظ المحتملة لتحتمل معنى صحيحاً يجمع بين قولي السلف، ومرجئة فقهاء الأحناف، هذا ما أفسر به اضطراب عبارات الطحاوي- رحمه الله- في مسائل الإيمان، فقد اضطرب اضطراباً كثيراً، أما ما عدا ذلك فقد وافق السلف في كل شيء. اهـ.
ومن ذلك أيضا قول الطحاوي: ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه. اهـ.
وقد علق الشيخ ابن باز على ذلك بقوله: هذا الحصر فيه نظر؛ فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام، أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ورسوله، أو بكتابه، أو بشيء من شرعه سبحانه؛ لقوله سبحانه: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة: 65، 66] ... وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم وهي لا تسمى جحودا، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت. اهـ.

وفي متن الطحاوية أيضا بعض الألفاظ الموهمة التي يستغلها أهل البدع في إثبات بدعهم، كقوله: فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية، وتعالى عن الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني