الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيفية التعامل مع المنكرات في بلاد غير المسلمين

السؤال

ما التصرف الصحيح في حال إحراق القرآن من قبل شخص كافر؟ علمًا أننا في بلد أوروبي نعيش في مخيمات اللجوء، والتصرف الذي حصل من بعض الشباب عند عدم قدرتهم على الوصول إلى ذلك الشخص، هو تدمير ممتلكات المخيم، والتهجم على عناصر الأمن فيه، الذين منعوهم من الوصول إلى ذلك الشخص، وكانوا يريدون حرق المخيم، ولكن وصول الشرطة منعهم، وبعض الشباب العقلاء، فهل هذا التصرف صحيح؟ وما الذي يجب على المسلم صاحب الغيرة على دينه أن يفعل في هذا الموقف -جزاكم الله خيرًا-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن الغيرة على الدين، والغضب لله تعالى، أمارة من أمارات الإيمان، وعلامة على تقوى القلوب؛ لأن سببها هو إجلال الله تعالى، وتعظيم شعائره، وقد قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].

قال السعدي: تعظيم شعائر الله، صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله، وإجلاله. اهـ.

وأما الجانب السلوكي، أو كيفية التعامل مع المنكرات بأنواعها، فهذا يختلف من حال إلى حال، ومن شخص إلى شخص، فقد يصل المرء لحالة من الاستضعاف والإكراه، لا تبيح له السكوت على المنكر فحسب، بل تبيح له فعله! كما قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106].

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): المشهور أنها نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمارًا فعذبوه؛ حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنًا بالإيمان. قال: فإن عادوا، فعد. وهو مرسل، ورجاله ثقات، أخرجه الطبري، وقبله عبد الرزاق، وعنه عبد بن حميد، وأخرجه البيهقي من هذا الوجه، فزاد في السند فقال: عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه، وهو مرسل أيضًا ـ وذكر له شواهد أخرى مرسلة، ثم قال: ـ وهذه المراسيل تقوى بعضها ببعض. اهـ.

والمقصود أن إنكار المنكرات ـ وإن اشتدت وغلظت ـ يراعى فيه القدرة، والعجز، وكذلك ميزان المصالح والمفاسد، فلا ينكر حيث يترتب على الإنكار منكر أعظم، أو مفسدة أكبر.

وقد عاش المسلمون في مكة قبل الهجرة، والأصنام تُعبد حول الكعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يُؤذى، ويُسبُّ في أفنيتها، وكثير من أصحابه يعذبون، ويضطهدون في نواحيها.

ولتقريب المراد نقول: في كثير من بلدان المسلمين، قد يوجد قريب من هذا الفعل في نكارته، ولكن لا يواجَه أحيانًا بمثل ما ذكر في السؤال، حيث يوجد من يسب الله تعالى، ومن يسب دينه في الطرقات جهرًا، ولكن لفساد الأحوال، وشيوع المنكرات، وتسلط المجرمين والمفسدين، تخف حدة الإنكار؛ مراعاة للواقع المؤلم، واجتنابًا لاتساع دائرة المنكر، فإن كان هذا يحدث بين ظهراني المسلمين، فما بالنا ببلاد غيرهم؟! وقد سبق لنا بيان وسائل، ومراتب، وشروط، وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 36372، 128990، 17092، 194295.

ثم إن إحراق الملجأ الذي يأوي إليه اللاجئون ليس من إنكار المنكر في شيء، بل هو في ذاته منكر، ولا يتضرر به من قام بهذا الفعل الشنيع الفظيع فحسب، بل سيعود الضرر على الضعفاء والمساكين الذين يؤويهم هذا الملجأ.

ولذلك، فالذي نراه في التعامل مع مثل هذه الحال المذكورة في السؤال، أن يتوجه المسلمون في التعبير عن إنكارهم إلى الوسائل المتعارف عليها في مثل تلك البلاد، كالتوجه بالشكوى إلى السلطات الحاكمة، والمطالبة بمعاقبة فاعل هذا المنكر، ورفع اللافتات، والتظاهر السلمي؛ إظهارًا للغضب، وإعلانًا للرفض.

ومع هذا، وأهم منه: ما يجري مجرى الأصول، من التعامل مع أهل هذه البلاد على أنهم محل دعوة، وتعريف بالإسلام، وكتابه المجيد، ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فكم غيَّر ذلك من واقع أناس كانوا بالأمس من ألد أعداء الإسلام وخصومه، فصاروا بعد ذلك من الدعاة إليه، المدافعين عنه، المتمسكين به.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني