الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم اعتزال الناس لكثرة ذنوبهم والخشية من الإثم عند ترك الإنكار عليهم

السؤال

إذا كان الراضي بالذنب كفاعله، فهل لا بد عليّ أن أنكر كل ذنب أراه بلساني أو بيدي أو بقلبي؟ وإذا لم أفعل هل يأتي عليه الذنب مباشرة أم أن الأمر واسع؟ فقد يكون فاعل الذنب نفسه لديه عذر فلا يأتي عليه الذنب؛ فقد يكون جاهلًا بالحكم من غير تقصير أو ناسيًا أو مخطأ، والخطأ والنسيان عفا عنهما الله، فلا يأتي عليه الذنب، فهل من باب أولى أن لا يأتي عليّ الذنب أنا إذا لم أنكر أم أنه يأتي عليّ الذنب مباشرة إذا لم أنكر مهما كانت الظروف؟ فأنا بدأت أعتزل الناس بسبب الذنوب، والذنوب كما تعلم أصبحت كثيرة جدًّا، فماذا أفعل؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد وضح لنا من أسئلتك أنك تعاني من بعض الوساوس، ومن ثم فنحن نحذرك من الوساوس، ومن الاسترسال معها؛ فإن الاسترسال مع الوساوس يفضي إلى شر عظيم.

ثم اعلم أن مخالطة الناس وتعليمهم ونصحهم وإرشادهم خير من اعتزالهم، إلا إن عجز الشخص عن تغيير المنكر وخشي التأثر به، فحينئذ يكون اعتزاله أفضل، والواجب عليك إذا رأيت منكرًا أن تغيره بحسب استطاعتك، فلا تقتصر على الإنكار بالقلب مع القدرة على الإنكار باللسان، فإن اقتصرت على الإنكار بقلبك مع القدرة على الإنكار باللسان كنت آثمًا، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: فإن لم يستطع فبقلبه. أخرجه مسلم. فشرط للانتقال إلى الإنكار بالقلب العجز عن الإنكار باللسان، وإذا بينت لفاعل المنكر خطأه فكان جاهلًا أو غافلًا أو ناسيًا فقد فعلت ما عليك، وعرفته حكم الله تعالى، أو ذكرته به، وبرئت أنت وهو من العهدة، وأما إذا عجزت عن الإنكار بلسانك واقتصرت على الإنكار بقلبك فقد فعلت ما يلزمك، ولا يتصور العجز عن الإنكار بالقلب، بل هو في مقدور كل أحد، ومن عرف أن هذا الشيء منكر وكان في قلبه إيمان فإنه ولا بد ينكره ويكرهه بقلبه؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر، وترك ما حظر، ومحبة الحسنات، وبغض السيئات، ولزوم هذا الفرض إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه، لم يكن معه من الإيمان شيء. كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}. وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: {ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}. رواه مسلم. فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء. انتهى.

وإذا علمت هذا تبين لك أنه لا خوف عليك أن يلحقك وعيد أو إثم إذا عجزت عن التغيير بلسانك؛ لأنك -ولا شك- مع معرفتك بالمنكر ستكون منكرًا له بقلبك، ولكن يجب عليك أن تفارق صاحب المنكر وتترك مجالسته إذا عجزت عن الإنكار عليه، ولم تكن بك حاجة إلى الجلوس؛ لقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء:140}.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني