الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المراد بالصبر في قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن يتصبر يصبره الله"

السؤال

ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يستعف يعفّه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر". متفق عليه. فهل قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله)، مخصوص بالصبر عن سؤال الناس فقط أم الصبر بمفهومه الواسع؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذ الحديث أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ؛ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ، فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ. ورواه الإمام أحمد (11091) من طريق أخرى بلفظ: مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَا أَجِدُ لَكُمْ رِزْقًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ. وإسناده حسن.

وأما ما يتعلق بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ومن يتصبر يصبره الله، فإن سياق الحديث جاء في بيان كراهة المسألة، وأن المراد بالصبر في هذا الحديث هو الصبر عن سؤال الناس، وانتظار رزق الله، وقد ترجم البخاري -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: باب الاستعفاف عن المسألة.

ولذلك فسر بعض أهل العلم الصبر بهذا المعنى الخاص، ومن ذلك قول الْقُرْطُبِيّ -كما في فتح الباري-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ) أَيْ: يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال، وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل لَهُ الرِّزْق، (يُصَبِّرهُ اللَّه) أَيْ: فَإِنَّهُ يُقَوِّيه، وَيُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسه؛ حَتَّى تَنْقَاد لَهُ، وَيُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة؛ فَعِنْد ذَلِكَ يَكُون اللَّه مَعَهُ، فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ.

وذهب بعض أهل العلم إلى ما هو أشمل من ذلك، فقد قال العيني -كما في عمدة القاري-: وفيه: الحث على الصبر على ضيق العيش، وغيره من مكاره الدنيا.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله عليه الصلاة والسلام: ومن يتصبر يصبره الله، عام يشمل جميع أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله الله- في (بهجة قلوب الأبرار): الثالثة قوله: "ومن يتصبر يصبره الله".

ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد، فهو أفضل العطاء، وأوسعه، وأعظمه، إعانة على الأمور، قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:45], أي: على أموركم كلها. والصبر كسائر الأخلاق، يحتاج إلى مجاهدة للنفس، وتمرينها؛ فلهذا قال: "ومن يتصبر" أي: يجاهد نفسه على الصبر، "يصبره الله"، ويعينه.

وإنما كان الصبر أعظم العطايا؛ لأنه يتعلق بجميع أمور العبد، وكمالاته، وكل حالة من أحواله، تحتاج إلى صبر:

فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله؛ حتى يقوم بها، ويؤديها.

وإلى صبر عن معصية الله؛ حتى يتركها لله.

وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها.

بل إلى صبر على نعم الله، ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تمرح، وتفرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله، فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر.

وبالصبر ينال الفلاح؛ ولهذا ذكر الله أهل الجنة، فقال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد:23-24], وكذلك قوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} [الفرقان:75], فهم نالوا الجنة بنعيمها، وأدركوا المنازل العالية بالصبر، ولكن العبد يسأل الله عافية من الابتلاء الذي لا يدري ما عاقبته، ثم إذا ورد عليه، فوظيفته الصبر، فالعافية هي المطلوبة بالأصالة في أمور الابتلاء، والامتحان، والصبر يؤمر به عند وجود أسبابه، ومتعلقاته، والله هو المعين.

وقد وعد الله الصابرين في كتابه، وعلى لسان رسوله أمورًا عالية جليلة:

وعدهم بالإعانة في كل أمورهم، وأنه معهم بالعناية، والتوفيق، والتسديد، وأنه يحبهم، ويثبت قلوبهم، وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة، والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات، والرحمة، والهداية عند المصيبات، والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة.

وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى.

ووعدهم بالسعادة، والفلاح، والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم، وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضًا عاجلًا يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة، ومصيبة.

وهو في ابتدائه صعب شديد، وفي انتهائه سهل حميد العواقب، كما قيل:

والصبر مثل اسمه مُرٌّ مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل. اهــ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني