الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فروق بين العبادات والعادات

السؤال

هل الأصل في العبادة التحريم، حتى يأتي دليل؟ وهل الأصل في المعاملات الحل، حتى يأتي دليل يحرمها؟
هل هذه القاعدة صحيحة؟ وهل يمكن تطبيقها على العادات والتقاليد؟ يعني إن كان المقصود من العادة التعبد والتقرب، فهي غير جائزة. وإن كانت لا يقصد منها التعبد، فهي جائزة؟
أفيدونا في هذا جزاكم الله خيرا؛ لأن العادات تحدث خلافا كبيرا بين الناس.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من القواعد المقررة عند الفقهاء: أن الأصل في العبادات الحظر، إلا ما شرعه الله. وأن الأصل في العادات الإباحة، إلا ما حرمه الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الله عاب على المشركين شيئين:

أحدهما أنهم أشركوا به، ما لم ينزل به سلطانا.
والثاني: تحريمهم، ما لم يحرمه الله عليهم.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه مسلم، عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».
قال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]. فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة، وأن فعلها خير من تركها.
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله. أو تحريم ما لم يحرمه الله.
ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم، أن أعمال الخلق تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة. وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم.
فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات: أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله. اهـ. باختصار من اقتضاء الصراط المستقيم.

وقد توسع في موضع آخر، فضرب أمثلة يتبين بها الفرق بين ما هو عبادة، وبين ما هو عادة.

فقال في مجموع الفتاوى: ومن المعلوم أن الدين له "أصلان" فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله. والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا دينا لم يأذن به الله.

ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة، كما يسعى بين الصفا والمروة. قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب، وإلا قتل.

ولو سئل: عن كشف الرأس، ولبس الإزار والرداء: أفتى بأن هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام. كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.

ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر، كما روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس. فقال: من هذا؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل، يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صومه. فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح، لم ينه عنه؛ لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها. فبين سبحانه أن هذا ليس ببر. وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله، كان عاصيا مذموما مبتدعا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.

ولهذا من حضر السماع للعب واللهو، لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب. وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى، فإنه يتخذه دينا. وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه. فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى أمر مباح؛ بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى، فهو ضال مفتر مخالف لإجماع المسلمين. اهـ.
فهذه القاعدة تحاكم إليها تقاليد الناس وعوائدهم، فما كان منها يفعل على وجه الديانة والقربة والعبادة، فالأصل فيه المنع؛ إلا إن دل دليل على مشروعيته، كمن كان من عادتهم مثلا التعبد لله بالطواف على القبور، فهذه عبادة، ولا دليل على مشروعيتها، فتكون على أصل المنع والتحريم.

وأما ما كان يفعل على وجه العادة كقوم اعتادوا على التزاور بعد الفجر مثلا، على غير وجه التعبد والتقرب إلى الله بذلك، فهذه عادة، ولا دليل من الشرع على منعها، فتكون على أصل الإباحة والإذن.

وراجع لمزيد فائدة حول هذه القاعدة ومتعلقاتها، الفتاوى التالية أرقامها: 127965، 173799 ، 327784.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني