الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ...

السؤال

هل ممكن أن تذكروا القصة الصحيحة لمن قال الله عنه: آتيناه آياتنا فانسلخ منها. وكيف نحذر من ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنه لم يثبت خبر في الشرع في المعني بقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {الأعراف:175}، وإنما هي آثار عن بعض السلف، مما أُخذ عن بني إسرائيل.

جاء في زاد المسير لابن الجوزي: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا... وفيه ستة أقوال:
أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل يقال له: بلعم بن أبر، قاله ابن مسعود. وقال ابن الجوزي: قال ابن عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي. وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعماً من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبَّارين.
والثاني: أنه أُميَّة بن أبي الصلت، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان أميّة قد قرأ الكتاب، وعلم أن الله مرسِل رسولاً، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حسده وكفر.
والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال: الأنصار تقول: هو الراهب الذي بُني له مسجد الشِّقاق، وروي عن ابن المسيب نحوه.

والرابع: أنه رجل كان في بني اسرائيل، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت سمجة دميمة، فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه، دعا الله أن يجعلها كلبة نَبَّاحَةً، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمُّنا كلبةً نبَّاحة يعيِّرنا الناس بها، فادع الله أن يردَّها إلى الحال التي كانت عليها أولاً، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن.

والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أُعطيَه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله عكرمة .اهـ.

ومعنى الآية لا يتوقف على معرفة شخص المعني بها -مع احتمال أن يكون المراد بالآية أصلا جنس من وقع منه ذلك لا شخصا بعينه-، ولا توجد حجة يتعين التسليم لها في ذلك، وهذا ما حققه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري حيث قال -بعد أن ذكر الخلاف-: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته، وهي "الآيات".
وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك "بلعم" = وجائز أن يكون أمية.

وكذلك "الآيات" إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها; فجائز أن يكون الذي كان أوتيها "بلعم" =وجائز أن يكون "أمية"، لأن "أمية" كان، فيما يقال، قد قرأ من كتب أهل الكتاب.

وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه = أو بمعنى اسم الله الأعظم= أو بمعنى النبوة =، فغير جائز أن يكون معنيا به "أمية"; لأن "أمية" لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك.

ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني، يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أي ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ونقر بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله .اهـ.

وجاء في تفسير ابن سعدي: قول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [ص:309] أي: علمناه كتاب الله، فصار العالم الكبير والحبر النحرير.
{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
وهذا لأن الله تعالى خذله ووكله إلى نفسه، فلهذا قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه.
{وَلَكِنَّهُ} فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وترك طاعة مولاه، {فَمَثَلُهُ} في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: لا يزال لاهثا في كل حال، وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بعد أن ساقها الله إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على الله، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من الله.
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا. {سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي: ساء وقبح، مثل من كذب بآيات الله، وظلم نفسه بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء.

وهذا الذي آتاه الله آياته، يحتمل أن المراد به شخص معين، قد كان منه ما ذكره الله، فقص الله قصته تنبيها للعباد. ويحتمل أن المراد بذلك أنه اسم جنس، وأنه شامل لكل من آتاه الله آياته فانسلخ منها.
وفي هذه الآيات الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه، وعصمة من الشيطان، والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه، وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان .اهـ.

وفي كلامه جواب كاف على سؤالك: (كيف نحذر من ذلك).

وهنا يحسن التنبيه على قاعدة عظيمة في باب التفسير: وهي أن ما أُبهم في القرآن العظيم، ولم تبين حقيقته فلا حاجة لتتبعه من الإسرائيليات ونحوها، فهذا مما لا ترتب عليه فائدة كبيرة.

قال ابن تيمية: ولكن في بعض الأحيان ينقل -أي: السدي- عنهم -أي: ابن مسعود، وابن عباس- ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " {بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:

" أحدها " ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.

و " الثاني " ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

و " الثالث " ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز. اهـ. من مجموع الفتاوى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني