الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم مَن شكّ في كفر سابّ الله تعالى

السؤال

سمعت فتوى تقول: "من شك في كفر ساب الله، فقد كفر"، فما تقولون في هذا الكلام؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن سبّ الله تعالى كفر مجرد، لا يحتاج إلى تفصيل!

ومن يفصِّل في حكمه، فيفرِّق بين المستحلّ وغيره، وبين من يقصد الإهانة وغيره، فقد زلّ زلة منكرة، ودار في فلك الجهمية، والمرجئة.

وقوله هذا قول بدعي كفري، ولكن لا يحكم بكفره عينًا؛ لمكان التأويل، حتى تزال عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، شأنه في ذلك شأن كل من وقع في بدعة كفرية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى- في مسألة تكفير أهل الأهواء: الناس مضطربون في هذه المسألة، وقد حكي عن مالك فيها روايتان، وعن الشافعي فيها قولان، وعن الإمام أحمد أيضًا فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام، فذكروا للأشعري فيها قولين، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل.

وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله، لا يحكم بكفره؛ حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد ... وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها ... ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع، والعين؛ ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك، ولم يفهموا غور قولهم، فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقًا؛ حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة، والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير، والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد، ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل! ولا يكفر من يفضّل عليًّا على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج، والقدرية، وغيرهم. اهـ.

وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: السلف والأئمة لم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة، والشيعة المفضّلة، ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء، وغيرهم- خلافًا عنه، أو في مذهبه؛ حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء، وغيرهم! وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة. اهـ.

هذا .. وينبغي أن يُعلَم أن إطلاق القول بكفر من شك في كفر الساب، يترتب عليه تكفير طوائف من أهل البدع، بل وبعض أهل السنة الذين أخطؤوا في هذا الموضع، كالقاضي أبي يعلى الحنبلي في بعض كتبه، حيث فصَّل في حكم الساب غير المستحلّ، فحكم بكفره في ظاهر الحكم، وأما في الباطن، فحكم بإسلامه إن كان صادقًا في دعوى عدم الاستحلال!!!

وقد علق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: يجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب، زلة منكرة، وهفوة عظيمة، ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين، وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملًا في القلب، ولا في الجوارح. اهـ.

وقال ابن حزم في المحلّى: أما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية، والأشعرية، وهما طائفتان لا يعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى، وإعلان الكفر، ليس كفرًا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى. وأصلهم في هذا أصل سوء، خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وإن أعلن بالكفر. اهـ.

والمقصود هو الإشارة إلى من يطالهم الحكم بالكفر إن أطلقنا القول بكفر من يشك في كفر الساب.

والصواب هو أن هذا القول قول كفري في نفسه، ولكن القائل به لا يلزم الحكم بكفره عينًا؛ لمكان التأويل، والشبهة. وراجع في ذلك الفتويين: 206329،184489. ولمزيد الفائدة في مسألة حكم الساب، يمكن الرجوع للفتوى: 137051.

ومثل هذا التفصيل يمكن تأصيله في مدارسة الناقض الثالث من نواقض الإسلام، الذي ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهو: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر.

قال الشيخ عبد العزيز الطريفي في كتاب: (الإعلام بتوضيح نواقض الإسلام): الكافر بالله تعالى لا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون كافرًا أصليًّا -كاليهودي، والنصراني، والبوذي، وغيرهم-، فهذا كفره ظاهر جليّ، ومن لم يكفِّره، أو شك في كفره، أو صحح مذهبه، فقد كفر، وخرج من ملَّة الإسلام بذلك ..

الثانية: أن يكون مسلمًا، فارتكب ناقضًا يخرجه من الإسلام، مع زعمه ببقائه على إسلامه، فإن كان ما ارتكبه من النواقض صريحًا، ومحل إجماع عند أئمة الإسلام، كمن استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو سبَّه، أو جحد شيئًا معلومًا من دين الإسلام بالضرورة، فلا يخلو الممتنع من تكفيره من حالين:

الأولى: أن ينكر أن يكون ما وقع فيه ناقضًا من نواقض الإسلام، فهذا حكمه حكمه، بعد قيام الحجة عليه.

الثانية: أن يُقرَّ بكون ما وقع فيها ناقضًا من نواقض الإسلام، لكنه احترز من تكفيره؛ لاحتمال ورود العُذر عليه، فهذا لا يَكفر. اهـ.

وبنحو ذلك فصّل الشيخ ناصر السيف في كتابه: (مختصر الكلام في شرح نواقض الإسلام).

وعلى ذلك؛ فمن لا يشك في أن سب الله تعالى كفر، ولكنه يشك في كفر ساب بعينه لاحتمال العذر، لا يكفر، بخلاف من لا يعتقد أن السب كفر أصلًا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني