الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قبول الواهب من الموهوب هدية بأكثر من قيمة هديته

السؤال

حصل بيني وبين فتيات اتفاق على تبادل "هدايا"، مع تحديد سعر معين، لا يزيد ولا ينقص، فأهديت أنا بنفس المبلغ المتفق عليه، والأخرى أهدت لي هدية بزيادة قليلة في السعر، فرفضت قبولها؛ لأن فيها زيادة، فهل يجوز لي رفض الهدية بالكامل؟ علمًا أني أهديت الفتاة بالمبلغ المحدد، فهل يجوز لي الامتناع عن الأخذ؛ حتى لا أقع في الحرام؟ أم أجتهد في معرفة فرق السعر، وأطلب منها تحري الأمر، وأعطيها الزيادة؟
أضيف: أنها بالفعل أعطتني الهدية، لكني تركتها ولم أفعل بها شيئًا، فإذا تبين أن جميع ما ذكرت محرم، فماذا أفعل بالهدية؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فما تسأل عنه السائلة يتعلق بما يعرف عند الفقهاء بهبة الثواب، أو الهدية بقصد العوض، وهذه إذا جرى الاتفاق عليها؛ كان لها حكم البيع، على خلاف بين أهل العلم في التفاصيل، وراجعي في ذلك الفتويين: 364948، 148867.

ومن ثم؛ فيجب اجتناب الربا في هبة الثواب، كما يجتنب في البيع، قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: (وإذا قيدها) المتعاقدان (بثواب معلوم لا مجهول صح العقد بيعًا) نظرًا للمعنى، فإنه معاوضة مال بمال معلوم -كالبيع-، بخلاف ما إذا قيدها بمجهول لا يصح؛ لتعذره بيعًا، وهبة، (وتثبت فيه) أي: في عقد الهبة بثواب معلوم (أحكامه) أي: البيع ... (ويجتنب فيه الربا) أي: المفاضلة في الربوي. اهـ.

وقال البهوتي في كشاف القناع: (وإن شرط) الواهب (فيها) أي: الهبة (عوضًا معلومًا صارت) الهبة (بيعًا فيثبت فيها خيار مجلس ... ووجوب التساوي مع التقابض قبل التفرق في الربوي المتحد; لأنه تمليك بعوض معلوم، أشبه ما لو قال: بعتك، أو ملكتك هذا بهذا .. (وإن شرط) في الهبة (ثوابًا مجهولًا، لم تصح الهبة). اهـ.

وقال محمد الأَمِير المالكي في ضوء الشموع: يشترط السلامة من الربا في الثواب، فيثاب عن العرض طعام، ودنانير، ودراهم، أو عرض من غير جنسه، لا من جنسه؛ لئلا يؤدي إلى سلم الشيء في مثله. لا يثاب عن الذهب فضة، ولا عن الفضة كذلك؛ للصرف، أو البدل المؤخر؛ ولذلك إذا كان قبل التفرق، جاز. ولا عن اللحم حيوان من جنسه، وعكسه. ويثاب عن الطعام عرض ونقد، لا طعام؛ للفضل، والنَّساء. ولا يلزم قبول الأكثر إلا لعرف، كما بمصر، فيلزم، وكذلك دفعه. اهـ.

وعلى ذلك؛ فإذا كانت الهدية صنفًا من الأصناف الربوية، كالمال، والطعام الموزون، أو المكيل، وكان ثوابها بصنف ربوي مثله، فلا بدّ من التماثل، والتقابض في مجلس الهبة.

وأما إن كانت الهدية وثوابها من غير الأصناف الربوية، كحقائب اليد، والساعات، والنظارات، والملابس، فلا يشترط فيها ذلك، وانظري للفائدة الفتويين: 94105، 15825.

وإذا تقرر ذلك؛ فامتناع السائلة عن قبول الزيادة في الهدية إذا كانت صنفًا ربويًّا، يكون له وجه ظاهر، فإن كانت قبلتها، ردت الزيادة -إن أمكن-، وإلا ردتها كلها، وطالبت بالمماثلة في الهدية، قال النفراوي في الفواكه الدواني: ما يقع في الأرياف بين العامة من رد الطعام عن الطعام، فحرام، ومثله قضاء الدراهم عن مثلها، أو عن الذهب، اللهم إلا أن يقع قضاء الطعام عن الطعام قبل تفرقهما، بل في مجلس الهبة، فيجوز بشرط المساواة عند اتحاد الجنس، أو مع الزيادة عند اختلافه، كما يفيده قول المدونة؛ لأن هبة الثواب بيع. اهـ.

وقال خليل في شرح مختصر ابن الحاجب: هل يعتبر فيما بين الهبة وعوضها السلامة من الربا؟ اعتبر ذلك في المدونة، فمنع أن يعوض من الحلي دراهم، ومن الطعام طعامًا مخالفًا، ومن الثياب ثيابًا أكثر منها من نوعها، وأجاز في الموازية كثيرًا من هذا المعنى. اهـ.

وأما إذا لم تكن الهدية صنفًا ربويًّا، فالأمر فيها واسع، فلا بأس عليها من قبولها، إذا عرفت السماحة من صاحبتها، ولم تخف على نفسها من المِنّة، وإلا فبإمكانها ردها، وطلب الاقتصار على القيمة المتفق عليها، قال النفراوي في الفواكه الدواني: وقع خلاف فيما إذا طاع الموهوب له بدفع أكثر مما يلزمه، وأبى الواهب من أخذ أزيد من قيمة هبته، فأفتى القابسي بجبر الواهب على أخذ الزائد على قيمة هبته... لأن هبات الناس على ذلك. هذا ملخص كلام القابسي، لكن يقيد كلامه بما لا يدخله ربا الفضل، وإلا امتنع، وأفتى غيره بأنه لا يجبر الواهب على قبول الزائد؛ لأن الإنسان لا يلزمه أخذ ما يتوقع المن به. اهـ. وراجعي للفائدة الفتاوى: 188263، 332743، 120077.

وهذا الذي ذكرنا هو الأحوط؛ خروجًا من الخلاف، وإلا فمِن أهل العلم من لم ير دخول الربا في الهبة، ولو كانت للثواب، قال السرخسي في المبسوط: وسواء كان العوض شيئًا قليلًا, أو كثيرًا، من جنس الهبة, أو من غير جنسها; لأن هذه ليست بمعاوضة محضة, فلا يتحقق فيها الربا, وإنما تأثير العوض في قطع الحق, وفي الرجوع لتحصيل المقصود, ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير إذا بينه للواهب، ورضي الواهب به. اهـ.

قال ابن العربي في أحكام القرآن: قد بينا أن الربا على قسمين: زيادة في الأموال المقتاتة، والأثمان, والزيادة في سائرها; وذكرنا حدودها; وبينا أن الربا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين، جائز بعلمهما; ولا خلاف فيه.

وكذلك يجوز الربا في هبة الثواب. وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب، فهو على هبته حتى يرضى منها"، فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني