الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دفاع عن أبي بكر الباقلاني

السؤال

من المعروف يقينا أن الأنبياء من الرجال ولكني وقعت على ما أدهشني جداً عندما وجدت أن بعض كبار العلماء شذوا فأثبتوا النبوة لبعض النساء فابن حزم ادعى أن هناك ستة منهن زعم منهن مريم، سارة، أم موسى، آسية!!! وقلت في نفسي لا بد أنها سقطة عظيمة، فما مثل هذا ما يغفل عنه المسلمون طيلة قرونهم ولا يبلغنا من الصحابة والتابعين حتى يأتي ابن حزم فيكتشفه وبالفعل ابن حزم قال ما قال، وهو يعلم يقينا إنه لم يقل أحد قبله ذلك (في حدود علمه) فقد قال: إن هذا الموضوع لم يتكلم فيه أحد حتى وقع الجدال حوله عندنا في هذه الأيام في قرطبة وعلى الرغم من ذلك تجرأ فأفتى فيه! وما لم يدركه ابن حزم أن الأشعري قال بما قال من قبل بل زاد فجعلهن تسعة! وعلق النووي قائلا قول منكر ضعيف. ووقع لي تعليق لابن تيمية في فتاويه في مجلد مجمل ومفصل الاعتقاد عندما أثبت أن العشرة المبشرين بالجنة أفضل من أزواج النبي وأنه لم يخالف أحد في ذلك خلا ابن حزم كعادته! ورد عليه شيخ الإسلام ثم قال: وأبو محمد مع تبحره في العلم والسنن إلا أن له من الأقوال الشاذة المنكرة ما يستنكره أي أحد كقوله إن مريم نبية وأم موسى نبية وآسية نبية! ثم قال ابن تيمية: إنه فصل لذلك فصلا في الرد عليه ولم أجده ولكنه قبل أن يختم تعليقه السابق قال إن الله قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} ولكنه رحمه الله كأنه لم يقع له ما كتبه ابن حزم بتمامه أو لعله كان سيفصل القول أكثر في فصل آخر كما قال، لأن ابن حزم جنح للتفرقة بين الرسالة والنبوة، فقال إن الرسالة لا خلاف أنها للرجال وفصل بينها وبين والنبوة. قلت: إذن يكون هناك من هو يطلق عليه لقب نبي ويجلس في بيته لا يأمر الناس ولا ينهاهم، نبي لنفسه، فقلت لا أسلم بهذه التفرقة الغريبة بين مدلول نبي ورسول، فغاية ما هناك أن يكون الرسول من جاء بشرع كموسى ومحمد عليهما السلام وأنبياء يبعثون ليرجعوا الناس لشرع الرسول الذي سبقهم كأنبياء بني إسرائيل فكلهم دعا لتوارة موسى، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ}، دل على ما ذهبت إليه فنبي غير رسول وكلاهما يذهب للناس ولو كانا بمعنى واحد لما جاز على القرآن التكرار بدون معنى ولو كان قول ابن حزم صحيحا في فهمه لمعنى النبي بأنه قد يكون نبي في بيته لما قال الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى}، ولقال رسول فقط فقد قام به المعنى، وما علمنا أبدأ أن هناك نبياً لنفسه، ولما ذكر الله غاية مريم والمسيح قال: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، فهذه غايتهما وما وصلا إليه فإن احتجوا بأن يوسف كان نبياً وأن الرجل قال له (يوسف أيها الصديق) قلنا إن الآية التي تذكر مريم بالصديقة هي كلام الله نفسه وتقرير لغاية ما وصلت إليه وحجة على أهل الكتاب فلو كان لها منزلة أعلى من الصديقية لذكرها الله لها، ومن خاطب يوسف بالصديق ليس الله ولا يعلم هل أصبح نبياً قبل السجن أم بعده وفيه خلاف، وإن قالوا حديث (كمل من الرجال كثير... ولم يكمل من النساء وعد فيهم مريم وآسية)، قلنا رد عليكم شراح الحديث وأفاضوا ولنا أن نقول بأن كمال الرجال إن عنى النبوة فلا نسلم لكم بأن كماله عند النساء نبوة أيضاً، هذا إن عنى بالحديث أصلا النبوة سواء الرجال أو النساء، فالرسول يكلم قومه، والنبوة اصطفاء، وعليكم الحديث في الصحيح (خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة) فهلا قلتم بنبوة خديجة؟!
وأما القرطبي فقد ذهب لنبوة مريم في تفسيره في سورة مريم وقال بخلافه في سورة الأنبياء، وأما ابن حجر فقط سقط وقلد ابن حزم وقول ابن حجر في ذلك غريب ويدحض بسهولة، وحجة هؤلاء سورة مريم حيث ابتدئت السورة بزكريا عليه السلام ثم يحيى ثم قال تعالى واذكر في الكتاب مريم ثم عيسى ثم تابع سبحانه لكل نبي بقوله اذكر كقوله اذكر في الكتاب إبراهيم واذكر في الكتاب إسماعيل واذكر في الكتاب إدريس ولما فرغ سبحانه قال أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين. فقال ابن حزم فذكر مريم بينهم فهي نبية! فقلت وكيف غفل أن كل نبي ذكر بعد قوله اذكر فلان تبعه قول تعالى إبراهيم (صديقا نبيا) إسحاق ويعقوب كلا جعلنا نبيا، موسى (مخلصا وكان رسولا نبيا) إسماعيل (صادق الوعد وكان رسولا نبياً) إدريس (صديقا نبيا)، فلم لم يقل عن مريم كذلك؟ ويحيى (آتيناه الحكم صبيا) (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) وزكريا قال (يرثني ويرث من آل يعقوب) فدل كل هذا على أن ذكر مريم جاء اعتراضيا لبيان أصل قصة عيسى عليه السلام ومحاجاة أهل الكتاب فلما انتهى سبحانه من قصة مريم وحملها بعيسى قال (ذلك عيسى ابن مريم) أي ذلك كل أمر عيسى وولادته المعجزة هذه أصلها مع أمه فلا تعودوا للقول بألوهيته كونه وجد بدون أب، والصحابة التابعون قرأوا ذلك مراراً فما قالوا بمثل هذا قط ولو اعتقدوه لسرى إلينا بلا خفاء فهي المرأة الوحيدة التي ذكرت بالاسم في القرآن ولها سورة وحدها وليس لها في النساء نظير إجماعاً، أرجو إفادتنا وأفيضوا فلقد ذكر بعضهم إجماعاً نقله إمام الحرمين والباقلاني ولكن تضعيف ابن حجر لأبي المعالي من حيث اطلاعه على كتب الحديث يرده والباقلاني أسقطه بعضهم لا أعرف لماذا فقد قرأت ولا أثق بمصدري أن بن حزم كفره لقوله إنه يجوز أنه في وقت الرسول من هو أفضل منه؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد تضمن هذا السؤال الأمور التالية:

- كون النبوة في الرجال خاصة دون النساء.

- الفرق بين الرسالة والنبوة.

- كون العشرة المبشرين بالجنة أفضل من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

* فأما كون النبوة مختصة بالرجال فهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو الصحيح لما ورد من الحصر في قول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً {النحل:43}، ورأى طائفة من أهل العلم جواز كون النبوة في النساء، لأدلة لا تنهض إزاء الحصر الوارد في الآية الكريمة، وراجع في هذا فتوانا رقم: 16614، والفتوى رقم: 31788.

ولك أن تراجع في الفرق بين الرسالة والنبوة كلاً من الفتوى رقم: 51071، والفتوى رقم: 53449.

وما نسبته لشيخ الإسلام من أن العشرة المبشرين بالجنة أفضل من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هو الصحيح، ولك أن تراجع فيه فتوانا رقم: 51056.

وما ذكرته عن تكفير ابن حزم للباقلاني هو ما أورده في كتابه (الفصل في الملل)، بعد الحديث عمن يقول إن في الناس من هو أفضل من الأنبياء، حيث قال ابن حزم: وما قدرنا أن أحداً ممن ينتمي إلى أهل الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطلق لسانه بهذا، حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمنائي قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من هو أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من حيث يبعث إلى حين يموت، فاستعظمنا ذلك. وهذا شرك مجرد، وقدح في النبوة لا خفاء به.

ولنا للتعقيب على كلام ابن حزم هنا وقفة وهي: أنه إذا كان المقصود هو القاضي أبا بكر بن الباقلاني المتوفى سنة ثلاث وأربعمائة فمن الصعب جدا أن يصدر عنه هذا الكلام وهو معروف بسعة علمه وورعه ومبالغته في الذب عن السنة، فقد قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة أوحد المتكلمين مقدم الأصوليين: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب..... بن الباقلاني صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه... وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه.. وقد ذكره القاضي عياض في طبقات المالكية فقال: هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة المتكلم على لسان أهل الحديث وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته....

ثم ذكر الذهبي ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة والعلم تحصيلاً وتصنيفا وتدريسا وأطال في ذلك الذهبي جداً، وختم كلامه الطويل بأنه عندما مات أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي منادياً يقول بين يدي جنازته هذا ناصر السنة والدين والذاب عن الشريعة.... ثم كان يزور قبره كل جمعة.

فمن الصعب جدا أن يصدر عنه مثل ما ذكره ابن حزم، ولو صدر عنه لما أثنى عليه الذهبي وعياض وإمام الحنابلة في زمانه أبو الفضل التميمي بما تقدم من ثناء.

ومن المعلوم عن أبي محمد بن حزم -عليه رحمة الله- أنه كان قليل التريث والأناة، مسرفا في العبارات، جسوراً على الأكابر خصوصاً إذا كانوا من رموز المذاهب الأربعة، فليس من المستغرب ألا يكون الباقلاني استثناء من هذه القاعدة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني