الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من المعجزات النبوية الإخبار بأمور غيبية تحققت في حياته

من المعجزات النبوية الإخبار بأمور غيبية تحققت في حياته

من المعجزات النبوية الإخبار بأمور غيبية تحققت في حياته

يذكر الواقع والتاريخ أن بعض الناس ادَّعى معرفته بأمور تنبأ بوقوعها، وقليل منهم مَنْ أصاب في بعض ما أخبر به دون مراعاةٍ للدقة في تفاصيل هذه الأخبار، وليس في ذلك أي فضل لهم، أمَّا أنْ يوجد إنسان يُخبر بعشرات من الأمور الغيبية المستقبلية بأوصافٍ شاملة ودقّة متناهية، ويشهد الواقع على وقوعها بدقة شديدة دون خطأ واحد، فذلك أمرٌ لا سبيل إليه إلا بوحي مِنَ الله عزّ وجل، وهو ما جعل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداث ووقائع كثيرة وقعت كما أخبر بها ـ في حياته أو بعد مماته ـ وجهاً من وجوه الإعجاز، ودليلا وعَلَمَاً من دلائل وأعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مَشْهد
فإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في صحوة اليوم أو غد

ومن المعلوم أن الغيب أمر اختص الله عز وجل به وحده، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}(الأنعام:59)، وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل:65). ونبينا صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء والبشر لا يعلم الغيب، قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}(الأنعام:50)، وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف:188)، ومن ثم فإذا أخبر صلى الله عليه وسلم عن شيء مِنَ الأمور الغيبية، فإنما يخبر بشيء مِنْ علم الله عز وجل الذي خصَّه به وأطلعه عليه، وأوحى به إليه، ليكون برهاناً ودليلاً على نبوته رسالته، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجـن:26: 27). قال البغوي: "{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب". وقال السعدي في تفسيره لسورة "الجن" وذكره لما اشتملت عليه هذه السورة: ".. علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها، فلا يعلمها أحد مِنَ الخَلْق، إلا مَنِ ارتضاه الله واختصه بعلم شيء منها".

والأمور الغيبية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها ووقعت في حياته وِفْقَ ما أخبر به ـ زمانا ومكانا ـ كثيرة، منها:
إخباره عن مصارع الطغاة في بدر قبل المعركة:
عن أنس رضي الله عنه: (كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد (قوي) البصر، فرأيتُه وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أمَا تراه؟ فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي.. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، قال: فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. قال النووي: "هذا مِنْ معجزاته صلى الله عليه وسلم الظاهرة". وقال ابن هبيرة:"وفيه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بمصارع (الأماكن التي سيُقْتَلون ويموتون فيها) المشركين الذين قُتِلوا في يوم بدر مِنْ قبل ذلك، وعلمه بمصير كل واحد وبقعته من الأرض".

2 ـ كتاب حاطِب بن أبي بَلْتَعة:
مما أطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عليه من الغيوب التي لا يعرفها لولا إخبار الله له: خبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي أرسله إلى قريش مع امرأة، يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو مكة. فكشف الله تعالى ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم وأطلعه عليه، فبعث علياً والزبيرَ والمقدادَ بنَ الأسود رضي الله عنهم، وحدد لهم المكان الذي سيجدوا فيه المرأة التي معها ذلك الكتاب، فأمسكوا بالمرأة في الموضع الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها الكتاب الذي أشار إليه، فعن علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (مكان قرب المدينة في طريق مكة)، فإن بها ظعينة (امرأة على بعير) معها كتاب، فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى (تجري) بنا خَيْلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عِقاصها (شعرها المضفور)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "من أعلام النبوة إطْلاع الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة".

3 ـ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم باستشهاد زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة في مُؤْتة:
أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه المسلمين وهو في المدينة المنورة بما يدور من أحداث القتال والمعركة في معركة مؤتة التي كانت تدور على مشارف الشام قبل أن يأتيه الخبر من أرض المعركة، ونعى للمسلمين استشهاد زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم وهم ما زالوا في أرض المعركة وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافات شاسعة، وهذه إحدى معجزاته وآياته الدالة على أنه رسول من الله عز وجل الله، ويتلقى الوحي منه سبحانه. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفر وابن أبي رواحة قبل أن يرجعوا إلى المدينة أو يأتي خبرهم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يصف لأصحابه ما يحدث في المعركة:(أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن أبي رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم) رواه البخاري. فالذي أعلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بمقتل قادته الثلاثة وهم ما زالوا في أرض المعركة وقبل أن يأتي خبرهم إلى الناس هو الله علام الغيوب، قال ابن حجر: "وفي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم النّاس بمُصاب أهل مؤتة، عَلَم ظاهر مِنْ أعلام النُّبوّة".

4 ـ إخباره صلى الله عليه وسلم بهبوب ريح شديدة في غزوة تبوك:
مِنَ الأمور الغيبية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه ووقعت بعد ما أخبرهم بها: إخباره وتحذيره لهم وهو منطلق بهم إلى غزوة تبوك من هبوب ريح شديدة عليهم، فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (وانطلقْنا حتى قدمنا تبوكَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهبُّ عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقيمُ فيها أحدٌ منكم، فمن كان له بعيرٌ فليشدَّ عقالَه، فهبتْ ريحٌ شديدة) رواه مسلم. قال النووي: "هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة، من إخبارِه عليه الصلاة والسلام بالمغيَّب، وخوفِ الضرر من القيام وقت الريح".

ما أخبر به النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَصْرَعِ كبار طغاة ومشركي قريش، وتحديد أماكن مصرعهم ـ في غزوة بدر ـ قبل وقوعها، وإخباره بما فعله حاطب بن أبي بلتعة وإرساله لكتابٍ إلى قريش، وإخباره صلى الله عليه وسلم لأصحابه باستشهاد ومقتل قادته الثلاثة وهم ما زالوا في أرض معركة مؤتة وبينهم وبينه مسافات شاسعة، وكذلك ما أخبر به أصحابه بأن ريحاً شديدة ستهب عليهم في غزوة تبوك.. كل هذه الأحداث والوقائع من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، أوْحى بها لنبيه صلى الله عليه وسلم وأطلعه عليها، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل حدوثها ووقوعها، ووقعت بعد إخباره بها بدِقَةٍ شديدة وِفْق ما أخبر به، وفي ذلك وجْهاً من وجوه الإعجاز، ودليلا وعَلَمَاً من دلائل وأعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة