الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمثال عاقبة الهوى 2-2

أمثال عاقبة الهوى 2-2

أمثال عاقبة الهوى 2-2

سبقت الإشارة في الجزء السابق من هذا الموضوع , إلى أن اتباع الهوى المذموم قد يكون في أمور الدين والمعتقد , وهي أهواء الشبهات , وقد يكون في أمور المعاصي وارتكاب المحرمات , وهي أهواء الشهوات , وذكرنا مثالاً يشمل هذين النوعين معاً على جهة الإجمال ، وهو حديث حذيفة رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم , وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذين النوعين على جهة التفصيل في أحاديث أخرى , فمن الأحاديث التي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مثلا لاتباع أهواء الشبهات ما جاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (ألا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً , وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ , ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ , وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ , وَهِيَ الْجَمَاعَةُ , وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأهواء , كَمَا يَتَجَارَى الكَلَبُ بِصَاحِبِهِ ,لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ) رواه أبو داود .

فهذا المثل الوارد في الحديث يبين خطورة البدع واتباع الأهواء على دين المرء , فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم افتراق الأمم الكتابية قبلنا إلى فرق كثيرة , على الرغم من إرسال الرسل إليهم , وإنزال الكتب عليهم , ومع ذلك فقد حصل بينهم الافتراق والتنازع , ثم بين عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة ستقع فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبل , وستفترق فيما بينها الافتراق المذموم , في المعتقد وأصول الدين , والسبب في الحالتين واحد , وهو اتباع الأهواء , وعدم الاستسلام التام للنصوص الشرعية , والاحتكام للعقول القاصرة والآراء الفاسدة , وبين صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو من هذه الفرق كلها , إلا فرقة واحدة , هي التي تمسكت بما كان عليه هو وأصحابه , قولا وعملا واعتقادا .

ثم شبه النبي صلى الله عليه وسلم خطر أهواء الشبهات , بداء الكَلَب , وهو داء يصيب الإنسان إذا عضه الكلب , فيصبح كالمجنون , وتظهر عليه مجموعة من الأعراض الخطيرة , ويمتنع المصاب بهذا الداء من شرب الماء حتى يموت عطشا , والمقصود من التمثيل أن صاحب البدعة والهوى يصعب عليه أن يتخلص منهما , إلا أن يشاء الله , فإن البدعة تخالط قلبه ,كما يخالط داء الكَلَب صاحبه ,حتى لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله , وهو أيضا يؤثر في غيره بما يلقيه من الشبه والشكوك , كما يؤثر المصاب بهذا الداء على غيره إذا عضه , ولذلك عبر صلى الله عليه وسلم بقوله: ( تتجارى بهم تلك الأهواء ) , أي أنها تنتشر بينهم بسرعة كانتشار النار في الهشيم , فيتلقفونها , ويتأثرون بها , وهي سمة مشتركة بين أهل البدع , نسأل الله العافية .

ومن الأحاديث التي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مثلا لاتباع أهواء الشهوات , حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ ,كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا , فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ , جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا , فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنّ, وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا , فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ ,وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا ) رواه البخاري.

وهذا المثل يبين خطورة اتباع الشهوات , والانسياق وراء اللذات المحرمة , فقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم فيه حاله مع أمته , برجل أوقد نارا , بغرض الإضاءة وطلب الدفء, فلما أضاءت ما حوله تهافتت الفراش والحشرات على مصدر هذا الضوء , لجهلها وعدم تقديرها لمصالحها , وهي لا تعلم أن فيه حتفها وهلاكها , فجعل الرجل يذودها ويذبها عن النار لئلا تحرقها , فلا تستجيب له , بل غلبته وتقحمت هذه النار , واستخدم صلى الله عليه وسلم لفظ الاقتحام , الذي يعبر به عن إلقاء النفس في الهلاك , من غير روية وتثبت , ومقصود المثل تشبيه أصحاب المعاصي , الذين يندفعون وراء أهوائهم وشهواتهم , من غير روية ولا تفكير في العاقبة , بهذه الحشرات التي بهرها ضوء النار , فسعت إلى ما فيه هلاكها , وأنه صلى الله عليه وسلم بما بعث به من الهداية والنور كالممسك بحُجَزِهِم , وهي معاقد الإزار من وسط الإنسان , لئلا يقعوا في نار جهنم , التي حفت بالشهوات , كما أخبر صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك فإنهم يغَلِّبون هواهم , وحرصهم على تحصيل تلك اللذات والشهوات , فيتفلتون من يده , ويقتحمون هذه النار.

وفي الحديث بيان لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة , كما قال الله عنه : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة: 128) .

فهذه الأحاديث تبين عاقبة اتباع أهواء الشبهات والشهوات , وهي تحث المسلم على أن يجاهد هواه , وأن يكون متيقظا لنفسه , نسأل الله أن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا والحمد لله رب العالمين .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة