الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تسبّوا أصحابي

لا تسبّوا أصحابي

لا تسبّوا أصحابي

كان صلح الحديبية وما تبعه من فتح مكة حدًّا فاصلاً بين السابقين الأولين في الإسلام، واللاحقين المتأخرين، ولا يخفى ما للسابقين الأولين من فضيلة على اللاحقين المتأخرين، يقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10).

وقد حصل شيء مما يكون بين الناس، بين الصحابيين الجليلين: عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكان عبد الرحمن بن عوف ممن أسلم قبل صلح الحديبية، وخالد بن الوليد ممن أسلم بعده، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

سبب ورود الحديث

أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف: تستطيلون بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم).

وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقع بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد بعض ما يكون بين الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه).

وفي لفظ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه).

وقفات مع الحديث

- (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه): المُد هو ملء كفي الرجل المعتدل -المتوسط اليدين-، والنصيف يعني النصف، والمعنى: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابي مُدًّا ولا نصف مُدّ.

- سبب تفضيل نفقتهم: يقول الإمام النووي في شرحه للحديث ما حاصله: سبب تفضيل نفقة الصحابة أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم، وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا ينال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

- النهي موجهٌ إلينا من باب أولى: نهيُ بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عن سب من سبقه، يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم عن سب من سبقه من بابٍ أولى.

- عدم الخوض فيما شجر بينهم: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحا عقيدة أهل السنة والجماعة: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.."، ثم قال: "ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم..".

وقال أيضا: "ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزرٌ مغفورٌ في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علِم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمِهَا على الله".

- خاتمة القول: "الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه"، كما قال ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة