الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله

فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله

فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله

في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة رسله الكرام، جاء قوله سبحانه: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام} (إبراهيم:47)، لنا مع هذه الآية الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: هذه الآية الكريمة سُبقت بآية تنذر الظالمين وتتوعدهم، ينبغي استحضارها قبل الشروع عن الآية التي معنا، وهي قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} (إبراهيم:42)، ففي هذه الآية إنذار للظالمين ومن شايعهم، وسار في ركابهم، أنهم لن يفلتوا من عقابه سبحانه، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود.

الوقفة الثانية: كان النهي في الآية السابقة عن أن يُحسب أن الله تعالى تارك الظالمين، وما يفعلونه، غير مُنْزِل بهم ما يستحقون من عقاب وعذاب، جزاء وفاقاً لما يفعلون، وهنا في هذه الآية يبين سبحانه أنه مُنْزِل هذا العقاب بالظالمين؛ جزاء لظلمهم، ولأنه قد وعد رسله به، وأن الله تعالى لا يخلف رسله ما وعدهم به.

الوقفة الثالثة: الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه؛ تثبيتاً وتشديداً لعزيمته، وتعريفاً أنه مُنْزِل من سخطه بمن كذبه، وجحد نبوته، ورد عليه ما أتاه به من عند الله، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم. فالغرض من الآية -كما ذكر المفسرون- تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى، والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيان العذاب المتضمِّن لذكر تعذيب الأمم السابقة؛ بسبب كفرهم وعصيانهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك، فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة، وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد، وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا، وبما أجبناهم به وقرَعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم، فدُمْ على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا الذي وعدناهم به.

الوقفة الرابعة: ذهب عدد من المفسرين -منهم الرازي وابن كثير- إلى أن هذه الآية هي بمعنى قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (غافر:51)، وقوله سبحانه: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، فهاتان الآيتان والآية التي معنا تفيد أن الله سبحانه ناصر رسله لا محال، والظاهر أنه نصر في الدنيا، فالمراد إذن تقرير النصر لرسل الله في الدنيا، وغلبتهم على أعدائهم الذين ناصبوهم العداء. وذهب أبو السعود إلى أن الآية التي معنا تفيد أنه سبحانه منزل عذابه وعقابه بالظالمين، وخاصة العذاب الأخروي؛ بدليل قوله في الآية التي سبقت الآية التي معنا، وهي قوله تعالى: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}، بينما الوعد في الآيتين الأُخريين بالنصر لرسل الله، ولا اختصاص له بالتعذيب، ولا سيما الأخروي.

وحاصل الخلاف أن أكثر المفسرين يرون أن الوعد في الآية إنما هو وعد بالنصر لرسل الله في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، في حين يرى أبو السعود أن الوعد في الآية إنما هو وعد بالعذاب للمعرضين عما جاء به رسل الله. وليس ثمة كبير خلاف بين الرأيين؛ إذ إن مراد القائلين بأن الوعد في الآية إنما هو وعد بنصر الله لرسله، ونصر الرسل يستدعي بالضرورة الغلبة على من عادهم وهذا لا يكون إلا بإنزال العقاب بهم، وهو عقاب في الدنيا قبل عقاب الآخرة.

الوقفة الخامسة: في هذه الآية الكريمة دليل على أن يوم القيامة كائن لا محال، وأن الله سبحانه يحاسب كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ووجه دلالة ذلك، أنه تعالى لو لم يقم القيامة، ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلاً، وإما كونه مخلفاً في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال، كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً.

الوقفة السادسة: ذهب ابن عاشور إلى أن قوله سبحانه في الآية: {رسله} جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً. وأن الآية تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به. فأما وعده للرسل السابقين، فذلك أمر قد تحقق، فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع {رسله}.

الوقفة السابعة: في الآية تقديم وتأخير؛ إذ تقدير الكلام: ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده، فقدم المفعول الثاني {وعده} على المفعول الأول {رسله}، قال المفسرون في تعليل هذا: ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، مصداق قوله سبحانه: {إن الله لا يخلف الميعاد} (آل عمران:9)، ثم قال: {رسله}؛ ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه رسله، الذين هم خيرته وصفوته؟

الوقفة الثامنة: يفيد ختام الآية الكريمة {إن الله عزيز ذو انتقام} أنه سبحانه ذو عزة، لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يغالب، و{ذو انتقام} ممن كفر برسله وكذبهم، وجحد نبوتهم، وأشرك به، واتخذ معه إلهاً غيره. فهو سبحانه لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.

الوقفة التاسعة: يُفهم من الآية التي معنا -وغيرها من الآيات التي في معناها- أنه سبحانه ينصر عباده الصالحين السائرين على درب المرسلين، المقيمين لشريعته، والمتمسكين بحبله المتين، والذابين عن دينه القويم، والواقفين في وجه الظالمين الصادين عن ذكر الله، كما قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} (النور:55).

الوقفة العاشرة: الأمر المهم في الآية التي معنا أنه سبحانه لا يترك الظالمين من غير حساب، فإن من أسمائه تعالى العادل، ومن صفاته سبحانه العدل، فكيف يترك عز وجل الظالمين بغير عقاب، والآية وإن كانت ساكتة عن موعد هذا العذاب أهو عذاب في الدنيا أو هو عذاب في الأخرى، فإن قراءة تاريخ الرسل السابقين، وتاريخ الدعاة المصلحين يدل على أن الله سبحانه ينزل عذابه بهؤلاء الظالمين في الدار الدنيا قبل الدار الأخرى، مصداق ذلك أخبار الجبابرة والطغاة على مر التاريخ، أمثال فرعون وهامان ومن شابههما من الطغاة الظالمين، ومن المتجبرين المتكبرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة