الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث التنفس في الإناء

حديث التنفس في الإناء

حديث التنفس في الإناء

شرع الإسلام مجموعةً من الآداب والأحكام المتعلقة بأكل المسلم وشربه، حتى تنتظم حياته، ولا يتعدى على حق غيره، ومن ذلك النهي عن النفخ في الطعام، والنهي عن التنفس في الإناء حال الشرب؛ لأنه ربما حصل له تغير من النَّفَس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، فيحرم غيره من حقه في هذا الماء بغير حق؛ ولذلك فقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه": باب النهي عن التنفس في الإناء، وأورد فيه حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شرب أحدكم، فلا يتنفس في الإناء). ثم أعقبه بـ "باب الشرب بنفسين أو ثلاثة" وساق فيه رواية عن ثمامة بن عبد الله، قال: كان أنس يتنفس في الإناء مرتين، أو ثلاثاً وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس ثلاثاً.

فهذان الحديثان ظاهرهما التعارض؛ إذ الأول صريح في النهي عن التنفس في الإناء، والثاني يثبت التنفس فما وجه الجمع بينهما؟

ذكر العلماء وجهين في الجمع بين هذين الحديثين:

الوجه الأول: قالوا: "الظاهر من صنيع الإمام البخاري رحمه الله في ترجمته أنه حمل الحديثين على حالين مختلفين، فحمل الأول على النهي عن التنفس في الإناء، بأن يكون الإناء ظرفاً للتنفس، وهذا ظاهر من قوله: "باب النهي عن التنفس في الإناء"، وحمل الحديث الثاني على التنفس خارج الإناء"، وهذه من لفتات الإمام البخاري العميقة، وقد قيل: فقه البخاري في تراجمه.

الوجه الثاني: قال ابن بطال: "يحتمل أن يكون نهيه -عليه السلام- عن التنفس فى الإناء فى حديث أبى قتادة، إذا شرب مع من يكره تنفسه فيه، ويتقذر الشرب منه، وإذا شرب مع من لا يتقذر منه فالتنفس له مباح، ولذلك تنفس -عليه السلام-؛ لعلمه برغبة الناس فيما يتنفس فيه؛ ليدل أمته على إباحة ذلك ممن لا يتقذر بنفسه، ألا ترى أنه مجَّ في وجه محمود بن الربيع مجَّةً، فكانت له بذلك فضيلة، وهذا الوجه أولى بالصواب".

قال ابن المنير: "أورد ابن بطال سؤال التعارض بين الحديثين، وأجاب بالجمع بينهما فأطنب، ولقد أغنى البخاري عن ذلك بمجرد لفظ الترجمة، فجعل الإناء في الأول ظرفاً للتنفس، والنهي عنه لاستقذاره، وقال في الثاني "الشرب بنفسين" فجعل النَّفَس للشرب، أي لا يقتصر على نَفَس واحد، بل يفصل بين الشربين بنفسين أو ثلاثة خارج الإناء، فعُرِفَ بذلك انتفاء التعارض".

والذي يظهر -والله أعلم- أن حديث أنس لا يقوى معناه على معارضة حديث أبي قتادة، والوجه الذي يُجمع به بين الحديثين ما سبق عن الإمام البخاري، بأن يُجعلَ التنفس المباح في حديث أنس خارج الإناء، والتنفس المنهي عنه في حديث أبي قتادة داخل الإناء، ويدل على هذا روايات منها:

ما أخرجه الترمذي وصححه والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: "أهرقها" قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: (فأبِنِ القدحَ إذاً عن فيك).

وما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود، فلينحِ الإناء، ثم ليعد إن كان يريد).

وأما حمل حديث أبي قتادة على أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم فيخالفه الأصل؛ إذ لا تثبت الخصوصية إلا بدليل، ولا دليل هنا، فيبقى النهي على عمومه، ويفهم حديث أنس في ضوء ما سبق من الجمع بينهما، ثم إن حديث أبي قتادة قولي، وحديث أنس إن سلمنا بمعارضته فعلي، والفعل لا يعارض القول، ولكن بالجمع بينهما لم نحتج لهذا الترجيح؛ إذ لا يصار إلى الترجيح ما دام الجمع ممكناً؛ إذ الجمع أولى وأعلى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة