الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهجر

الهجر

إن المجتمع المسلم مجتمع متآلف تشيع فيه روح المحبة والوئام،وقد حث الشرع المطهر على كل ما فيه تقوية روح الإخاء بين أبناء هذا المجتمع ونهاهم عن كل ما ينتقص أو يؤثر سلبا على هذه الروح،ومن جملة الأخلاق السلبية التي نهى عنها الشرع الهجر بين المسلمين.

معنى الهجر:

الهجر عبارة عن مفارقة الإنسان غيره ، و قد يكون ذلك بالبدن كما فى قوله تعالى : ( و اهجروهن في المضاجع ) " سورة النساء : 34 " و قد يكون باللسان أو بالقلب ، كما في قوله تعالى: ( إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ) " سورة الفرقان : 30 " ، أما قوله عز و جل: ( و اهجرهم هجراً جميلاً ) " سورة المزمل : 10 " فهو محتمل للهجر بالبدن و القلب و اللسان و قوله سبحانه: ( و الرجز فاهجر ) " سورة المدثر : 5 " حث على المفارقة بالوجوه كلها .

أنواع الهجر وأحكامه:

الأصل هو المنع من هجر المسلم ، لكن قد يشرع الهجر في بعض الأحيان ويختلف حكم الهجر باختلاف المهجور.

هجر المرأة:

فإن تعلق الهجر بالمرأة فإنه مشروع في بعض الأحيان، و ذلك عند النشوز أو مخافته مصداقاً لقوله تعالى: ( و اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن و اهجروهن في المضاجع ) " سورة النساء : 34 ". و المرأة لا تهجر إلا في البيت لحديث معاوية القشيرى – رضي الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت و تكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا فى البيت " رواه أبو داود و قال الألباني: حسن صحيح . و معنى قوله تعالى : ( و اهجروهن فى المضاجع ) ألا يضاجعها و يوليها ظهره ولا يجامعها أو يغلظ عليها فى القول ، و هذا الهجر غايته عند العلماء شهر كما ذكره القرطبي و ينبغى على الرجل قبل الهجر أن يقوم على وعظ أهله و تذكيرهم و إزالة شبهاتهم برفق و لين و أن يجتهد فى الدعاء لهم: ( ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماماً ).

هجر المسلم:

و إن تعلق الهجر بالمسلم فإنه يعد كبيرة شريطة أن يكون فوق ثلاث وألا يكون لغرض شرعي ؛ لما في ذلك من التقاطع و الإيذاء و الفساد ، و قد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى و منها ما رواه أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا و يعرض هذا و خيرهما الذي يبدأ بالسلام " رواه البخاري و مسلم ، و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال – قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " رواه أبو داود و صححه الألباني ، و عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة ، فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار كل ذلك لا ير د عليه فقد باء بإثمه " رواه أبو داود و حسنه الألباني ، و عن أبي خراش السلمي – رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه " رواه أبو داود أبو داود و صححه الألباني . فإذا زاد الهجر بين الإخوان فوق ثلاث كان حراماً لما يترتب عليه من تفكك اجتماعي ، و يستثنى من تحريم هذا الهجر مسائل حاصلها أنه متى عاد الهجر إلى صلاح دين الهاجر و المهجور جاز و إلا فلا ، و قد قاطع النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام الثلاثة الذين خلفوا ، خمسين يوما و ليلة ، حتى نزلت توبتهم من فوق سبع سموات بعد أن ضاقت عليهم الأرض على رحابتها و ضاقت عليهم أنفسهم، قال تعالى: ( و على الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت و ضاقت عليهم أنفسهم و ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا ).

هجر ذوي الأرحام:

وأما هجر ذوى الأرحام فيعتبر من جملة الكبائر حتى و إن لم تبلغ المدة ثلاثة أيام ، لأن الهجر هنا أضيف إليه قطيعة الرحم ، و الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله و من قطعني قطعه الله ، و قد أمر سبحانه بوصلها فقال: ( واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام) و ليس الواصل بالمكافئ ، و الرحم توصل بالهدية و الزيارة و السلام و المراسلة ، بل الرحم الكافرة توصل من المال و نحوه كما قال الأمام الخطابي و غيره ، فإن لم يستطع الإنسان صورة من صور الصلة عمل بالأخرى أو بما يقدر عليه منها؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، و لما هم البعض بقطع ذوي الرحم استبطاءً لإيمانهم نزل النهي عن ذلك: ( ليس عليكم هداهم و لكن الله يهدى من يشاء و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله و ما تنفقوا من خير يوف إليكم و أنتم لا تظلمون ) و قد أمر سبحانه بصلة الوالدين و مصاحبتهما بالمعروف حتى و إن ظلما و كانا مشركين قال تعالى:( و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفاً ) . و قد عد الإمام الذهبي رحمه الله هجر الأقارب مطلقاً من الكبائر.

هجر أهل البدع والمعاصي:

أما هجر أهل البدع و الأهواء فإنه مطلوب على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة و الرجوع إلى الحق ، فمن وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين ، و لما دخل رجل يتكلم في القدر ( أي ينكره ) على ابن سيرين ، سد ابن سيرين أذنيه و قال للرجل : إما أن تخرج و إما أن أخرج . قال ابن مفلح: " يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية و القولية و الاعتقادية " و قال ابن تميم : " هجران أهل البدع كافرهم و فاسقهم و المتظاهرين بالمعاصي ، و ترك السلام عليهم فرض كفاية ، و مكروه لسائر الناس ، ولا يسلم أحد على فاسق معلن ولا مبتدع معلن داعية ولا يهجر مسلماً مستوراً غيرهما من السلام فوق ثلاثة أيام " . و الهجر هنا قد شرع كعلاج و لم يشرع للبتر ولا للإهلاك ، و بالتالي فلا تزيد فى الكيفية أو فى الكمية فتهلك صاحبك ، و شرع الله مصلحة كله ، ولابد من مراعاة واقع الغربة و تفشى الجهالة، و القيام بواجب الدعوة و الرفق بالخلق و إزالة الشبهات ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيى عن بينة ، و كان من مذهب عمر و أبي الدرداء و إبراهيم النخعي أنك لا تهجر أخاك عند المعصية فإن الأخ يعوج مرة و يستقيم مرة أخرى ، و لعل هذا يتناسب مع ظروفنا؛ إذ لا سلطان لنا على النفوس؛ و لغلبة الجهل و قلة العلم بآثار الرسالة ، وإذا كان المهجور يزداد شراً و فساداً بالهجر ، فصلته حينئذ مع دعوته أولى من هجره و التباعد عنه .

هجر المرأة زوجها:

لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تهجر زوجها أو تمتنع عنه إذا طلبها لحاجته ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " لا تهجر امرأة فراش زوجها إلا لعنتها ملائكة الله عز و جل " رواه أحمد و البخاري و مسلم بلفظ قريب منه و لفظه " إذ دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ( رفضت ) فبات غضبان عليها لغتها الملائكة حتى تصبح " . و فى رواية: " حتى ترجع ". ولا يصح للزوجة أن تتعلل بتفريط الزوج؛ إذ تفريطه في الحق لا يستدعي تقصيرها، و عليها أن تسأل الله الذي هو لها .

خيرهما الذي يبدأ بالسلام:

إذا كان الأصل في الهجر أنه من المنهيات فإن الثلاثة أيام تكفي لإذهاب شحناء النفوس و الأهواء التي تعتمل فيها ، وقد جعل الشرع خير الرجلين الذي يبدأ صاحبه بالسلام وقد ترجم الصالحون هذا المعنى بسلوكهم فحرصوا على إصلاح ذات البين ،عن أبي الحسن المدائني قال : " جرى بين الحسن بن علي و أخيه الحسين كلام حتى تهاجرا، فلما أتى على الحسن ثلاثة أيام من هجر أخيه أقبل إلى الحسين و هو جالس فأكب على رأسه فقبله فلما جلس الحسن قال له الحسين : إن الذي منعني من ابتدائك و القيام إليك أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به " .

من أضرار الهجر:

من المعلوم أن الهجر بغير سبب شرعي له أضرار شديدة على الفرد والمجتمع فالهجر صفة قبيحة تسخط الله عز و جل على المتهاجرين ، و هو سبب في تأخير المغفرة من الله عز و جل ، و يعد من حبائل الشيطان التى يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى الجحيم ، عن مجاهد قال : " الأقلف موقوف عمله حتى يختتن و الصارم ( الهاجر ) الظالم موقوف عمله حتى يفيء.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس،فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء،فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا..." الحديث.

و بالجملة فلابد من هجر الذنوب و المعاصي و كل ما يؤدي إليها ، و الحذر كل الحذر من هجر القرآن و غيره من الطاعات و القربات لقوله تعالى: ( و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ).

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة