الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ألفاظ (الأمن) في القرآن

ألفاظ (الأمن) في القرآن

ألفاظ (الأمن) في القرآن

الإيمان والأمانة والأمن مصطلحات قرآنية محورية، تحمل دلالات شرعية معينة، وهي في أصلها اللغوي مشتقة من مادة (أمن)، وهذه المادة تدل على ثلاثة أمور:

أحدها: الأمانة، يقال: أمُن أمانة: كان أميناً.

ثانيها: التصديق، يقال: آمن به: إذا وثق به وصدقه.

ثالثها: الأمن الذي هو ضد الخوف، يقال: أمِن أمناً وأماناً وأمنة: إذا اطمأن، ولم يخف، فهو آمن.

وأصل (الأمن) طمأنينة في النفس، وزوال الخوف عنها؛ يقال: أمن يأمن أمناً وأَمَنَة وأماناً. والمأمن: موضع الأمن. والأمنة: اسم من أمنت. والأمان: إعطاء الأمنة. والعرب تقول: رجل أُمَّانٌ، إذا كان أميناً. وبيت آمن ذو أمن. ورجل أُمَنَة - بضم الهمزة - إذا كان يأمنه الناس، ولا يخافون شره؛ ورجل أَمَنَة - بفتح الهمزة - إذا كان يُصدق ما سمع، ولا يكذب بشيء. والأمانة: نقيض الخيانة، والمفعول: مأمون وأمين.

ولفظ (الأمن) تارة يكون اسماً للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة يكون اسماً لما يؤتمن عليه الإنسان من مال ونحوه؛ ولفظ (الإيمان) أيضاً على صلة وثيقة بهذه المادة؛ إذ الإيمان لغة يعني: التصديق، والتصديق وعدم الخوف والأمانة يجمعها قاسم مشترك هو سكون النفس واطمئنانها.

بعد هذه الجولة اللغوية السريعة حول مادة (أمن)، نتوجه بعدُ للتعرف على مدلولات هذه الألفاظ الثلاثة: (الإيمان) و(الأمان) و(الأمن) في القرآن، والبداية مع (الإيمان).

الإيمان

لفظ (الإيمان) تواتر مجيئه في القرآن الكريم، وليس من المبالغة القول: إن هذا اللفظ هو الأكثر حضوراً في القرآن، ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى الإيمان قطب أساس في القرآن؛ إذ هو خطاب للمؤمنين أولاً {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} (الفتح:4)، ثم هو ثانياً خطاب للعالمين {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا...فآمنوا بالله ورسوله} (الأعراف:158).

وقد ورد لفظ (الإيمان) في القرآن فيما يزيد عن خمسمائة موضع، وبعدة اشتقاقات؛ فجاء (اسماً) في أربعة عشر موضعاً، منها قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} (البقرة:108). وجاء (مصدراً) في ثلاثة عشر موضعاً، منها قوله سبحانه: {فزادهم إيمانا} (آل عمران:173). وجاء (صفة) في نحو مائتي موضع، منها قوله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} (البقرة:221)، وأكثر ما جاء هذا اللفظ في القرآن (فعلاً)، حيث جاء في أزيد من ستين ومائتي موضع، منها قوله سبحانه: {وبشر الذين آمنوا} (البقرة:25)، جاء في نحو تسعين موضعاً منها خطاباً مباشراً للمؤمنين، منها قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة:153).

ولفظ (الإيمان) في القرآن ورد على خمسة معان:

أولها: الإيمان الشرعي، وهو إقرار باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، من ذلك قوله سبحانه: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ وقوله عز وجل: {وبشر المؤمنين} (البقرة:223). وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ (الإيمان) جاء على هذا المعنى.

ثانيها: التوحيد، ومنه قوله تعالى {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (المائدة:)، أي: من يكفر بالله الذي يجب الإيمان به فقد حبط عمله. ونحوه قوله سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل:)، وقوله تعالى: {إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (غافر:10).

ثالثها: التصديق، الذي هو خلاف التكذيب، ومنه قوله سبحانه: {وما نحن لكما بمؤمنين} (يونس:78)، أي: ما نحن لكما بمصدقين؛ ومثله قوله تعالى: {وما نحن لك بمؤمنين} (هود:53)، أي: ما نحن لك بمصدقين؛ وكذلك قوله عز وجل: {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف:17)، أي: ما أنت بمصدق لنا.

رابعها: الإقرار باللسان من غير تصديق القلب، وعلى حسب هذا المعنى فُسر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله}، معناه: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم وأعمالكم. وهذا على قول من ثلاثة أقوال في معنى الآية. وعلى وفق هذا المعنى فسر أيضاً قوله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} (المنافقون:3).

خامسها: الصلاة، ومنه قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة:143)، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

الأمانة

ورد لفظ (الأمانة) في القرآن في نحو عشرة مواضع؛ جاء في موضعين منها (اسماً) مفرداً؛ أحدهما: قوله سبحانه: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} (البقرة:283)، وثانيهما: قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} (الأحزاب:72)، وجاء في أربعة منها (اسماً) جمعاً، من ذلك قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء:58). وجاء في موضعين (فعلاً) مضارعاً مبنياً للمعلوم، وذلك قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} (آل عمران:75)، وجاء في موضع واحد (فعلاً) ماضياً مبنياً للمعلوم، وذلك قوله سبحانه: {فإن أمن بعضكم بعضا} (البقرة:283)، وجاء في موضع واحد (فعلاً) ماضياً مبنياً للمجهول، وذلك قوله سبحانه: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} (البقرة:283).

ولفظ (الأمانة) في القرآن ورد على ثلاثة معان:

أحدها: الفرائض التي افتراضها الله على عباده، ومنه قوله تعالى: {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} (الأنفال:27)، أي: لا تضيعوا ما فرضه الله عليكم من فرائض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته؛ وقال السدي: إذا خانوا الله والرسول، فقد خانوا أماناتهم. وعلى حسب هذا المعنى، يُفهم قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} (الأحزاب:72)، أراد بـ {الأمانة}: الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.

ثانيها: الوديعة ونحوها، ومنه قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء:58)، فالآية يدخل في مفهومها كل ما يؤتمن عليه الإنسان، من وديعة ورهن ولُقَطة ونحوها. ووفق هذا المعنى قوله سبحانه: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} (المؤمنون:8)، أي: إذا اؤتمنوا على شيء لم يخونوا، بل يؤدونه إلى أهله.

ثالثها: العفة، وعلى هذا المعنى فُسر قوله تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} (القصص:26)، أي: القوي في بدنه، الأمين في عفافه. ذكره الماوردي كأحد قولين في معنى الآية.

الأمن

وردت لفظ (الأمن) في القرآن في نحو سبعة وعشرين موضعاً، وباشتقاقات متعددة؛ فورد على صيغة (المصدر) في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} (البقرة:125)، وجاء على صيغة اسم الفاعل، كـ (صفة) في خمسة مواضع، منها قوله سبحانه: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} (البقرة:126)، وجاء (اسماً) في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن} (النساء:83)، وجاءت (فعلاً) في أربعة عشر موضعاً، منها قوله سبحانه: {فإذا أمنتم} (البقرة:196).

ولفظ (الأمن) جاء في القرآن الكريم على معان ثلاثة:

أحدها: بمعنى الأمانة الذي هو ضد الخيانة، وعليه قوله سبحانه: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} (البقرة:283)، يعني: فليعطِ المؤتمن ما اؤتمن عليه من أمانة. ونحوه قوله سبحانه: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} (آل عمران:75)، أي: إن بعض أهل الكتاب فيهم أمانة، يؤدونها مهما كثرت.

ثانيها: بمعنى الأمن المقابل للخوف، ومنه قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} (الأنعام:82)، والمعنى: أن الذين آمنوا بالله، ولم يشركوا به، آمنون من عذابه يوم القيامة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ونحو ذلك قوله سبحانه: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} (آل عمران:154)، يعني: أمناً، والأمن والأَمَنَة بمعنى واحد، أي: أنزل على المؤمنين أماناً بعد الخوف الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عَددهم وعُددهم.

ثالثها: بمعنى المكان الآمن، ومنه قوله سبحانه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6)، أي: أبلغه موضع أمنه: وهو دار قومه، أو منـزله الذي فيه أمنه. ونحو ذلك قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} (البقرة:125)، أي: مكاناً آمناً للناس.

والمتأمل في هذه الألفاظ القرآنية الثلاثة، يجد أنها على صلة وثيقة فيما بينها؛ فكل لفظ منها يتضمن معنى اللفظ الآخر بنحو ما؛ فـ (الإيمان) يفيد الطمأنينة والسكينة والأمان؛ و(الأمانة) تفيد التصديق بمن تأمنه على شيء، والاطمئنان له؛ و(الأمن) يفيد أن تصدِّق بمن يؤمِّنك على نفسك وأهلك، وتأمنه في كل ما تملك.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة