الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المقاصد الأسلوبيَّة للاستفهام في لغة الحديث الشَّريف 2-4

المقاصد الأسلوبيَّة للاستفهام في لغة الحديث الشَّريف 2-4

المقاصد الأسلوبيَّة للاستفهام في لغة الحديث الشَّريف 2-4

تحدّثنا سابقا عن (التّقرير) ضمن أهمّ المقاصد الأسلوبيَّة في لغة الحديث النّبويّ الشّريف الّتي وقف عليها اللُّغويّون، وفي هذا المقال نُكمل تقسيمات أهل اللُّغة لأهمّ المقاصد الأسلوبيَّة في لغة الحديث النّبويّ الشّريف.

ثانيًا: النَّفي:

تدور معاني كلمة النّفي لغةً حول: الطرْد والإبعاد والجَحْد، يقال: نَفَيْت الرّجل وغيره، أَنفيه نفْيًا، إذا طردْته..، ونَفْيُ المخنَّث: ألاَّ يَقَرَّ في مُدن المسلمين..، ونَفَى الشّيءَ نفْيًا: جَحَده، ونَفَى ابنَه: جَحَده..، وفي الحديث: (المدينة كالكِير تَنفي خَبَثَها)؛ أي: تُخرجه عنها، وهو من النّفي: الإبعاد عن البلد.

هذا المعنى اللّغوي للكلمة مراد كذلك في الاستفهام، فالمستفهم الّذي يقصد النّفي من سؤاله يطلب من المسؤول أن يستبعد نقيض النّفي وهو الإثبات، ويخرجه من دائرة إقراره الثّبوتي، بل عليه أن يقرَّ بالسّلب؛ أي: بسلب مضمون الحُكم الّذي تضمَّنه الاستفهام، وشرط دلالة الاستفهام على النّفي أن يصحَّ حلول أداة النّفي محلّ أداة الاستفهام.

ومنه قول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حكايةً عن ربِّ العزّة سبحانه سائلًا اليهود والنّصارى: (هل ظلمتكم من حقِّكم شيئًا؟) في سياق الرّدِّ على اعتراضهم وهو أنْ يعمل اليهود إلى نصف النّهار، والنّصارى من نصف النّهار إلى صلاة العصر، ويعمل المسلمون من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على ضِعف أجْر ما لكلِّ فريقٍ منهم، فقالوا غاضبين: نحن أكثر عملًا وأقلُّ عطاءً، قال الله: (هل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟)، قالوا: لا، قال: (فإنه فضْلي، أُعطيه مَن شِئْت) رواه البخاريّ.

والسّياق يوضِّح أنَّ الله تعالى أرادَ أن يقررَهم بنفي الظّلم عنهم، بدليل إجابتهم بـ"لا"، وبدليل صحّة حلول "ما" مكان "هل"، وبلاغة الاستفهام هنا تكمُن في سرِّ اختياره أسلوبًا للتّعبير، واستبعاد أسلوب النّفي الصّريح؛ إذ كان يُمكن أنْ يقول الحقّ جلّ وعلا فيما حكاه الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: (ما ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا)، لكن لكون اليهود والنّصارى اعترضوا على تفضيل أُمَّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالأجْر مرَّتين، كان الأوقع أنْ يُقِرُّوا هم على أنفسهم بالنّفي، وهذا أبلغُ من التّعبير بالنّفي الصّريح ابتداءً؛ إذ في استنطاق المعترض بإقراره بنفْي الظّلم أبلغُ دَلالة على كمال العدل الإلهي، فأسلوب الاستفهام في أصْل وضعه يتطلَّب جوابًا يحتاج إلى تفكير، ولَمَّا كان المسؤول يُجيب بعد تفكير ورَوِيَّة عن هذه الأسئلة بالنّفي، كان في توجيه السّؤال إليه حَمْلًا له على الإقرار بهذا النّفي، وهو أفضلُ من النّفي ابتداءً.

وعلى ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّات؟ هل يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ؟)، فقوله: (هل يَبقى من دَرَنه شيءٌ؟) القصْد منه النّفي، وإنّما آثَر التّعبير عنه بأسلوب الاستفهام؛ حثًّا لهم على التّفكير والتدبُّر في أثر الوضوء والصّلوات الخمس، والدَّرَن المنفيُّ بقاؤُه قد يكون ماديًّا، فيكون الأمر خاصًّا بالتّفكُّر في آثار الوضوء، وقد يكون معنويًّا، والمراد الذّنوب الّتي يغسلُها الوضوء وتمحوها الصّلاة؛ ولذلك عقَّب صلَّى الله عليه وسلَّم على إقرارهم بالنفي بقوله: (فذلك مَثَلُ الصّلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا) متّفق عليه.

وسِرُّ عُدوله - بالاختيار - إلى أسلوب الاستفهام عن النّفي الصّريح، أنَّ النّفي الصّريح حُكمٌ قد يصدِّقونه، ويجوز ألاَّ يصدّقونه، أو على الأقل لا يأْبَهون له، لكنَّ إجراءَه على ألسنتهم إقرارٌ بنفْيه؛ أي: إقرارهم هم أنفسهم بأنَّ مَن كان أمامه نَهرٌ يغتسل منه خمسَ مرَّات، لا يَبقى من دَرَنه شيءٌ، فيه مزيدُ تنبيهٍ وتذكير لهم بأنَّ هذا الّذي لا تُمارون فيه، إنّما هو مَثَل الصّلوات الخمس الّتي يمحو الله بهنَّ الخطايا، فلا ينبغي أنْ تغفلوا عن الصّلوات الخمس، فإقرارهم بالنّفي أوقعُ في نفوسهم وأبلغُ من أنْ يعبِّر عنه صلَّى الله عليه وسلَّم بالنّفي ابتداءً، والاستفهام الأوَّل: (أرأيتم؟) القصْد منه الأمرُ.

ثالثًا: الأمر:

ورَد أسلوب الاستفهام بمعنى الأمر في مواضع، منها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (فهل أنتم صادقي؟) رواه البخاريّ، فالقصد ليس سؤال اليهود على الحقيقة، بل القصْد أمرُهم بالصّدق، واختار التّعبير عن الأمر بالاستفهام؛ حثًّا لهم على الصدق، وتلطُّفًا معهم؛ كي لا يكذبوا، فرُبَّما لو أمَرَهم لنَفروا منه، فالأمر المباشر بالصّدق كأن يقول: "اصدقوني إنْ سألتُكم عن كذا"، مُشْعِرٌ بعدم ثقة الآمر في المأمور؛ ولذا أمَرَه بأن يصدق، ثمّ في التّعبير عن الأمر بالاستفهام بـ"هل" مع الجملة الاسميّة أفاد الدَّلالة على بلوغ الغاية في الاهتمام والعناية بأن يَصدقوه فيما يسألهم عنه؛ لأن أصْل "هل" أن تدخلَ على الفعل لا الاسم، فإذا عمَد الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وهو البليغ الّذي درّب على أساليب العرب الفُصحاء، وعرَف مواضع الكلام وتفاوُتَه بحسب مُقتضيات الأحوال، فيضع لكلِّ مقامٍ مقالًا، إلى اختيار الجملة الاسميّة لا الفعليّة، فهذا يعني أنه أرادَ دِقَّة التّعبير، فعِلْمُه بأنَّ اليهود درَجوا على الكذب - حتّى لقد كذبوا على ربِّهم، فقالوا: عزير ابنُ الله - هو الّذي استدعَى تأكيده على ضرورة الصّدق في هذا المقام.

ومنها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم للسيدة جُوَيريَّة زوجته رضي الله عنها وقد دخَل عليها، فقال: (هل من طعام؟)، قالت: لا، والله يا رسول الله، ما عندنا من طعام إلاَّ عَظْم شاة أُعْطِيَتْهُ مَوْلاتِي من الصَّدَقة، فقال: (قرِّبيه، فقد بلغتْ مَحِلَّها) رواه مسلم.

وسؤال النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم زوجتَه رضي الله عنها بعد دخولها عليه، إنَّما هو من سؤال الآمر للمأمور؛ إذ هو الزّوج وهي الّزوجة، والموقف موقف طلبٍ، فمِن سمات المقام الّذي يخرج فيه الاستفهام إلى الأمر أن يكون الطالبُ في موقعٍ اجتماعي أو غيره، مُتصل أو منقطع، عالٍ بالقياس إلى موضع السّامع، وأن يتوافر في ذَاكِرَتَيْهِما المشتركة جُملة من الأحداث أو الرَّغبات، يُمكن أن يطلبَ تحقيقها على سبيل الاستفهام.

والأسلوب المعتاد في مثل هذا الموقف: "أحْضري الطعام"، أو "ائْتِني بالطعام"، وفرْقٌ كبير بين طلب الطّعام بصيغة الأمر، وبين العدول عنه إلى أسلوب الاستفهام، فالأمر في مثل هذا السّياق، أمرٌ حقيقي على سبيل الاستعلاء، والآمر يطلب بصيغة تَخلو تمامًا من مُراعاة العلاقة الطَّيبة بين الزّوج والزّوجة، علاقة المودَّة والحبِّ، بل رُبَّما إنْ ضغطَ على الفعل "أحْضري" في النّطق، لأشعرَ بغضبٍ أو اشمئزازٍ من الزّوج على زوجته، أو لأشعرَ بالاستبطاء في إعداده.

أمَّا في العدول عنه بإيثار التعبير بتركيب الاستفهام "هل مِن طعام"، ففيه إلى جانب الأمر معاني التّلطُّف في الطّلب واللّين، ومُراعاة مشاعر الزّوجة؛ ولا سيَّما وأنَّ السّؤال مُشْعِرٌ بعِلْم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن بَيْتَه رُبَّما لا يكون فيه طعام؛ ولذلك سألَ عن جنس الطعام، بل هو مُشْعِر كذلك برضا الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن حاله، وكأن مضمون سؤاله: إذا كان عندك أيُّ طعام، فأْتِني به، وإلاَّ فلا عليك، بخلاف لو خرَج الكلام بصورة الأمر المباشر، فالآمر حينئذٍ لا يُبالي بشيءٍ سوى تنفيذ ما أمَرَ به!

وقد تكرَّر في استفهامات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صيغة معيَّنة للاستفهام تدلُّ على معنى الأمر هي: "أرأيت؟"، وهي صيغة يُمَهد بها لسؤال آخر تالٍ، مُترَتب على الأوّل، وقد وردتْ في ثلاثة مواضع، هي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أرأيت لو مَضْمَضْتَ من الماء وأنت صائمٌ؟) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرَّات؟) متّفق عليه، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم حكاية على لسان الدَّجال: (أرأيت إنْ قتلتُ هذا ثُمَّ أحييتُه، هل تشكُّون في الأمر؟) متّفق عليه.

وهو أسلوب قرآني تأثَّر به النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وورَد كثيرًا في القرآن الكريم، ومنه في القرآن الكريم قولُه عزَّ مِن قائل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الملك: 28)، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (الملك:30)، وقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} (الفرقان: 43).

وهو استفهام خرَج إلى الأمر بمعنى أخبرني: أيبطل الصيام لو مَضْمَضْت من الماء وأنت صائم؟ فكذلك القُبْلة في الصّيام، في الموضع الأوّل، وأخبروني: هل يَبقى من دَرَن الإنسان شيءٌ إذا اغتسَل من نهرٍ أمام داره خمس مرات؟ فإذا أقررْتُم بالنّفي، فكذلك الذّنوب تمحوها الصّلوات الخمس، ولا يَبقى منها شيءٌ ما اجْتُنِبَتِ الكبائر، وكذلك في الموضع الثّالث: وهو حكاية على لسان الدَّجال، فلِمَ لَم يَخْتَرِ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم صيغةَ الأمر المفترضة، وآثَر عليها أسلوبَ الاستفهام؟

إنّ توجيه الكلام بأسلوب الاستفهام في مقام الأمر، فيه إغراءٌ للمخاطب على الاستجابة، وحثٌّ عليها، واحترامٌ من السائل للمسؤول؛ لترْكه الأمرَ وهو قادرٌ عليه، كما فيه حثٌّ على إعمال العقل في تدبُّر المعنى المُمَثَّل له، فإذا أقرَّ بما أراده الرّسول جوابًا للاستفهام، سَهُل عليه أن يقيسَ عليه إجابةَ السّؤال الثّاني؛ ففي السّؤال الأوّل مثلًا: أخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتقبيله وهو صائم، ظانًّا أنّه أتَى أمرًا عظيمًا، فسأله النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (أرأيت لو مَضْمَضْتَ من الماء وأنت صائم؟)، في الكلام حذف تقديره: "أرأيت..؟ هل ترى فيه شيئًا؟ أو هل تراه أمرًا عظيمًا؟"، فأجاب عمر بن الخطاب: لا بأْسَ به، وهو ما كان يَعنيه النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجعلَه مشارِكًا له في استنتاج الدَّلالة، أو في الوصول إلى الحُكم؛ ولذا عقَّب النّبيُّ على إقراره بنفي البأْس والحرَج عمَّن مَضْمَض وهو صائم، بقوله: (فمه)؛ أي: "انْكَفِفْ عمَّا أنت فيه، وخَفِّف عنك ظنَّك بعِظَم ما اقترفْتَ، فما فعلتَ شيئًا يستحقُّ أنْ تقلَقَ أو أن تستعْظِمَه".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة