الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم

لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم

لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم

من التوجيهات الإلهية قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} (المائدة:87-88) فقد نهت الآية أن يحرم الإنسان ما أحل الله له من الطيبات، وهل يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه خير ومصلحة لهم.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية الروايات التالية:

الرواية الأولى: أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} (المائدة:87-88).

هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ضمن أحاديث كثيرة وردت في هذا الباب منهم: الطبري، والبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير. قال القرطبي: "والأخبار بهذا المعنى كثيرة، وإن لم يكن فيها ذكر النزول، وهي:

ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي بدا لهم أنها قليلة- فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وروى الشيخان أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: (ردَّ رسول الله صلى لله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا). و(الخصاء: هو قطع الخصيتين، اللتين بهما قِوام النسل، أو تعطيلهما عن عملهما، والمراد من هذا الفعل دفع شهوة النساء).

وكلام القرطبي ربما يشعر بأن الآية لم تنزل بسبب الأحاديث المذكورة في سببها؛ لأنه ساق أحاديث لا صلة لها بنزول الآية.

وقد يؤيد ما ذهب إليه القرطبي ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب -أي إلى أجل في نكاح المتعة، وهذا قبل تحريمه- ثم قرأ علينا: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.

الرواية الثانية: روى الطبري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}؛ قال: هم رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسبح في الأرض، كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم، فذكر لهم، فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكنى أصوم وافطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي؛ فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي؛ فليس مني).

الرواية الثالثة: أخرج سعيد بن منصور والطبري عن أبي مالك؛ قال: (نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه، حرَّموا عليهم كثيراً من الطيبات والنساء، فهمَّ بعضهم أن يقطع ذكره؛ فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.

والناظر في هذه الروايات الثلاث يجد أن مضمونها واحد، وإن اختلفت ألفاظها، وظاهر أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي مطابق للآية مطابقة كاملة؛ فقوله: (فحرمتُ عليَّ اللحم) يوافق قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} وقوله: (اللحم) يوافق قوله: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} فالظاهر أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي سبب نزول الآية، وإن كان الصحيح فيه الإرسال؛ لأمور ثلاثة:

1- التصريح بالسببية (فأنزل الله...).

2- مطابقة سياق الحديث للفظ الآية.

3- الاحتجاج به عند جمهور المفسرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة