الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خرافة الإعلام الحر!

خرافة الإعلام الحر!

خرافة الإعلام الحر!

بالرغم من ولوجنا عصر العولمة الإعلامية من أوسع أبوابه وانفضاح أمر الكثير من الخرافات والأساطير السياسية والإيديولوجية والثقافية والإعلامية فإن الكثير منا مازال يجثم تحت تأثير بعض الخرافات "الديمقراطية" السخيفة تماماً كأجدادنا وجداتنا في العصور الغابرة؛ حيث كانوا يرفضون رفضاً قاطعاً التشكيك في أي من الأساطير الدارجة التي عاشوا عليها، حتى لو كانت مفضوحة كعين الشمس.
وهكذا أمر العديد من المثقفين والكتاب العرب الذين يرددون بعض المصطلحات والتعابير "الديمقراطية" بشكل ببغائي دون أن يفكروا يوماً بمجرد التساؤل فيما إذا كانت واقعية أم خيالية.

ولعل أكثر الأكاذيب التي ما زال بعض الواهمين والحالمين يصدقها ويؤمن بها ويروج لها هي أكذوبة "الإعلام الحر" التي أطلقتها الغوبلزية الغربية وصدقتها، لا بل جعلت الملايين يصدقونها في العالم أجمع، كيف لا وقد قام الإعلام الغوبلزي أصلاً على مقولة: "اكذبوا ثم اكذبوا حتى تصدقوا أنفسكم؟!".

ليس هناك إعلام حر لا في الدول "الديمقراطية" ولا في الأنظمة الاستبدادية. إنها خدعة كبيرة انطلت على الكثيرين. ولا أبالغ إذا قلت: إن معظم وسائل الإعلام في الشرق والغرب هي وسائل إعلام عصبوية بامتياز إلا ما ندر، أي أنها تسير حسب عقائد وأصول وخطط صارمة وقيود قاسية لا تزاح عنها قيد أنملة، وتتمسك بها بأسنانها حتى لو بدت ظاهرياً منفتحة.

فالإعلام هو أولاً وأخيراً أداة تحكم وتوجيه وتعبئة سياسية، في أي مكان كان، أو بالأحرى جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية والاقتصادية والتجارية، وبالتالي فهو ليس حراً أبداً، بل مجرد تعبير عن موقف سياسي وثقافي وأيديولوجي أو مصالح اقتصادية وتجارية معينة. بعبارة أخرى وسائل الإعلام ما هي إلا خادم مطيع في أيدي القوى التي تمتلكها وتوجهها. هل شاهدتم أبداً خادماً حراً؟ أليس الخدم عادة أشبه بالعبيد؟ متى كان العبيد أحراراً؟

فلو أخذنا وسائل الإعلام الأمريكية مثلاً لوجدنا أن بضع عائلات فقط تسيطر على معظمها، وتلك العائلات لها مصالحها ومخططاتها وأهدافها وتوجهاتها؛ وبالتالي فإن الوسائل التي تمتلكها لا بد بالضرورة أن تساير تلك التوجهات والمصالح.

لقد انتفت الحرية الإعلامية بمجرد وقوع وسائل الإعلام تحت سيطرة جماعة ما، والأمر ذاته ينطبق على وسائل الإعلام المملوكة للشركات الكبرى وأصحاب النفوذ والمصالح في أمريكا، فكما هو معلوم فإن العديد من محطات التلفزة والصحف والمجلات الكبيرة مملوكة لشركات عملاقة: فشركة (جنرال الكتريك) مثلاً تمتلك قناة (أن بي سي) التليفزيونية الشهيرة. ومعلوم أن تلك الشركة تقوم بالإضافة إلى صنع الأدوات الكهربائية والالكترونية بتصنيع الصواعق النووية وغيرها من المعدات الحربية، وبالتالي فإن تليفزيون (أن بي سي) لن يتمكن من الحديث لا من بعيد ولا من قريب عن خطورة الأسلحة النووية ولا عن ضرورة التخلص منها أو الحد من انتشارها، فهو محكوم بسياسة الشركة المالكة التي تتنوع مصالحها واهتماماتها، و بالتالي فإن القناة التليفزيونية التابعة لها ليست أكثر من عبد مأمور يخوض فقط في القضايا التي لا تضر الشركة. أين الحرية الإعلامية هنا؟ أوليس من يدفع للزمّار يطلب اللحن الذي يريد؟

واللافت للنظر أن هناك قنوات عربية أكثر حرية واستقلالية من معظم القنوات الغربية التي ترفع شعار الإعلام الحر وتتباهى به!! إن الإعلام الغربي يخضع لقيود ورقابة قد تتجاوز في بعض الأحيان ما هو معروف في العالم العربي. لكن هذا لا يعني أبداً أننا نفاضل هنا بين الاعلام الغربي والاعلام الرسمي العربي، فالأخير ليس إعلاماً أصلاً.

ولعل أكثر ما يتجاهله بعض المطبلين والمزمرين لأسطورة الإعلام الحر هو أن الإعلام في الغرب تحديداً إعلام حزبي وعصبوي واستقطابي بامتياز. أي إنه يعبر فقط عن رأي الحزب أو التجمع أو التنظيم الذي يتبع له. وبالتالي فهو ليس حراً بل هو محكوم بسياسات وتوجهات الحزب. لهذا السبب مثلاً نجد أن صحيفة (التايمز) البريطانية لا تستطيع أن تحيد عن خط حزب المحافظين، فقد عُرفت الصحيفة منذ نشأتها بأنها صحيفة محافظة ومن مهمتها معارضة سياسات وتوجهات حزب العمال البريطاني. وكذلك الأمر بالنسبة لصحيفة (الديلي تلغراف) فهي معروفة سياسياً وثقافياً بأنها صحيفة اليمين البريطاني وبالتالي محرّم عليها إنصاف اليسار البريطاني مثلاً. بل عليها أن تنسف كل نظرياته وأدبياته.

والأمر الأكثر أهمية أن كتاب ومعلقي ومحرري (التايمز) أو (التلغراف) هم من طينة إيديولوجية معينة، أي إنهم أصوليون على طريقتهم سياسياً وثقافياً إن لم نقل دينياً أحياناً. ومن المستحيل أن تجد كاتباً في (الديلي تلغراف) ينتقل للكتابة في صحيفة (الغارديان) اليسارية مثلاً، أي إنه معجون فكرياً وإيديولوجياً ليتواءم مع خط الصحيفة. وإذا حظي زعيم حزب العمال ببعض التأييد من صحف المحافظين أحياناً فهذا لأنه اقترب أكثر من توجهات حزبهم وابتعد عن منطلقات حزب العمال لا أكثر ولا أقل.

وبدورها فإن صحيفة (الغارديان) البريطانية تتعارض مع صحيفتي (التايمز) و(الديلي تلغراف) مائة وثمانين درجة كونها تعبر عن التيار العمالي في البلاد، وهي ملتزمة إلى حد كبير بسياسات حزب العمال واستراتيجياته الفكرية والثقافية والاجتماعية؛ وبالتالي لن تجد في (الغارديان) كاتباً محافظاً، وكل محرريها وكتابها ذوو ميول اشتراكية أو يسارية عامة.

بعبارة أخرى فالصحفي الغربي حر فقط في تبني خط الصحيفة التحريري ومهاجمة الأحزاب الأخرى المعارضة للحزب الذي تسير الصحيفة في ركبه.

إذن فإن حزبية الإعلام الغربي تنسف الحرية الإعلامية من جذورها، وبالتالي تصبح التعددية السياسية، من سخرية القدر، آفة ما يسمى بالإعلام الحر. وهذا يذكرني تماماً بالنكتة الشهيرة التي دارت أحداثها بين الرئيسين السوفياتي والأمريكي ذات مرة إذ تفاخر الأول بأن الإعلام في بلاده يتمتع بحرية عظيمة إلى حد أن أي صحفي سوفياتي يستطيع أن يسب ويشتم أمريكا ليل نهار دون التعرض إلى أي مساءلة. وكذلك الأمر بالنسبة للصحفي الأمريكي الذي بدوره يستطيع أن يكتب ما يشاء ضد السوفيات بحرية تامة. وإذا كان البعض غير متفق مع هذه المقاربة فعليه فقط أن يعود إلى خمسينيات القرن الماضي حيث قام السيناتور الأمريكي الفاشي سيئ الصيت جوزيف مكارثي بملاحقة وتخوين كل مثقف أو كاتب أو صحفي أمريكي يتعاطف مع الأفكار الاشتراكية. ولا أعتقد أن وضع الإعلام الأمريكي أفضل الآن بعدما راحت الإدارة الحاكمة تخوّن وتكفـّر كل من لا يسير في ركابها بحجة أنها في حرب وتكافح الإرهاب. ولو شاهدت نشرات الأخبار في القنوات الأمريكية الكثيرة ذات مساء لأخذت الانطباع بأن هناك رئيس تحرير واحداً لها جميعاً لتشابه الموضوعات والقضايا التي تتناولها.

باختصار فإن الحرية في وسائل الإعلام الغربية هي حرية البعد الواحد بمعنى أن يكون مسموحاً أن تقول كل شيء في اتجاه محدد ولكن غير مسموح لك أن تتكلم بحرية في مجالات محرمة. هل يستطيع أي صحفي أو كاتب غربي أن يخوض في مسألة الهولوكوست دون التعرض للمضايقة والسجن أحياناً؟ يا للإعلام الحر!

والانحياز والتقوقع والحمائية ذاتها تنسحب على ما يُسمى بالإعلام العربي "الليبرالي" الذي غصت به بعض مواقع الانترنت والصحف. فهناك مواقع الكترونية ناطقة بالعربية تتشدق ليل نهار بليبراليتها وانفتاحها لكنها لا تستضيف على صفحاتها سوى جوقة "أصولية" مؤدلجة كصحفيي جريدة (برافدا) السوفياتية السابقة لكن باتجاه يدّعي أنه ليبرالي ومنفتح. وقد حدثني أحد الذين يكتبون فيها أن رئاسة التحرير رفضت أكثر من مرة نشر مقالات له لمجرد أنها أنصفت الإسلاميين ولم تهاجمهم.

ولو نظرنا إلى مواقع الانترنت التي تختار مقالات من الصحف وتقوم بإعادة نشرها لوجدنا أنها مختارة بعناية فائقة كي تتماشى تماماً مع الخط التحريري للموقع الذي يدّعي الليبرالية والانفتاح. وكم أضحك عندما أرى بعض المواقع والصحف تكتب في أسفل الصفحة ملاحظة تقول: "إن الآراء المنشورة في موقعنا لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي كتابها". وهذه نكتة سمجة لا تنطلي حتى على المخبولين عقلياً، خاصة إذا ما علمنا أنها مختارة للتعبير فقط عن رأي الموقع وتوجهاته.

ومما يزيد في تسخيف خرافة الإعلام الحر أن الإعلاميين الغربيين، محافظين كانوا أم يساريين، يصبحون جوقة واحدة عندما يتعلق الأمر بالموقف من دولة أخرى. فقد عشت في بريطانيا أكثر من اثني عشر عاماً ولم أجد وسيلة إعلام واحدة لا في اليمين ولا في اليسار تتخذ موقفاً منصفاً من أي نظام كان على خلاف مع الحكومة البريطانية. ففيديل كاسترو مثلاً يجب أن يُصور على الدوام في وسائل الإعلام البريطانية بكافة مشاربها على أنه زعيم شرير لا لشيء إلا لأن (عشرة دواننغ ستريت) ليس في وئام مع النظام الكوبي وأمثاله. وأتذكر أيضاً أن إحدى الصحف البريطانية العريقة أجرت قبل بضع سنوات مقابلة جميلة جداً مع زوجة أحد الزعماء العرب وابرزتها على صدر صفحاتها. لكن الصحيفة ذاتها انقلبت مائة وثمانين درجة بعد أن اختلف توني بلير مع الحكومة التي يرأسها ذلك الزعيم العربي، وتحولت إلى أداة دعائية مفضوحة للحكومة البريطانية لا هم لها سوى شيطنة ذلك الزعيم العربي ونظامه، بعد أن كانت قد قدمت زوجته قبل فترة على أنها نموذج للمرأة العربية المتحضرة والريادية!

وكم ضحكت وأنا أتابع إحدى قنوات التليفزيون البريطاني الخاصة قبل فترة وهي تجري مقابلة مع أحد البيض العائدين من زيمبابوي. فالقناة لا تمل من الترويج لنفسها على أنها رمز النزاهة والاستقلالية لكنها ضربت عرض الحائط بكل شعاراتها المزعومة عندما تعلق الأمر ببلد على خلاف مع النظام البريطاني. فكلنا يعرف أن نظام موغابي في زيمبابوي أصبح خروفاً أسود في نظر الحكومة البريطانية لأنه دافع عن مصالح وطنه وشعبه وبالتالي لا بد من شيطنته وتصويره في أسوأ تكوين. لا عجب إذن أن استضافت تلك القناة "المستقلة والحرة" شخصين أبيضين عائدين من بلاد موغابي "المتوحشة"، ليصبا أحقادهما على حكومة زبمبابوي بما لذ وطاب من اتهامات وتلفيقات وفبركات. ولم يكن أمام المذيع سوى مباركة كل كلمة قالاها بحق موغابي. يا للإعلام الحر!

والأنكى من أكذوبة الإعلام الحر هناك كذبة أكبر ألا وهي أكذوبة الإعلام المفتوح، فقد درج المفتونون بالديمقراطية الغربية على تصوير وسائل الاعلام الغربية على أنها مفتوحة لكل من هب ودب كي يعبر فيها عما يجول في خاطره من أفكار وعقائد. وهذه من أكبر الأساطير. ولا أبالغ إذا قلت إن الإعلام الغربي يكاد يكون عصياً على الاختراق أكثر من صحيفة (الثورة) في عهد صدام حسين. فوسائل الإعلام الغربية تمارس حمائية عز نظيرها حتى في أكثر البلدان استبداداً وانغلاقاً.

واتذكر أنني عشت لسنة في بيت استاذ انجليزي في مقاطعة يوركشاير كان مواظباً على قراءة إحدى الصحف المحافظة وكان متأثراً بخطها المحافظ حتى العظم. وكان يراسلها باستمرار على أمل أن يرى اسمه منشوراً في زاوية (بريد القراء) لا أكثر ولا أقل. لكن أمله لم يتحقق إلا بعد حوالي عشرين عاماً من المراسلة كما أخبرني، فقد تمكن بعد جهد جهيد أن ينشر بضعة أسطر في صحيفته الغراء مما حدا به إلى قص المساهمة وتكبيرها ومن ثم وضعها في إطار جميل كي يعلقها على حائط غرفة الاستقبال. وتساءلت وقتها إذا كان هذا الاستاذ المحافظ العتيد انتظر عشرين عاماً لينشر سطرين في جريدته المفضلة والأثيرة على قلبه، فكم سينتظر شخص غير محافظ او غير بريطاني؟

ولا داعي للتذكير بأن وسائل الإعلام الغربية تمارس الحمائية الثقافية المفرطة ليس فقط ضد البعيدين بل حتى ضد الأقربين. فلم أشاهد مثلاً سوى بضعة أفلام أوروبية يتيمة على شاشة التليفزيون البريطاني طيلة فترة إقامتي هناك. فإذا كان المسؤولون عن الإعلام البريطاني يمارسون التعتيم ضد الثقافات الأوروبية المجاورة والمشابهة أحياناً، فما بالك بالثقافات الأجنبية البعيدة؟ ألم يصب الإعلامي الاسترالي جون بلجر كبد الحقيقة عندما قال: إن "الأنظمة الغربية تستخدم الإعلام لتطويع مجتمعاتها بنفس الطريقة التي تستخدم الأنظمة الشمولية وسائل القمع لإخضاع شعوبها".

لقد آن الأوان للتخلص من وهم أسطورة "الإعلام الحر" واستبداله بمصطلح "الإعلام الأسير". وليسمح لي العالم اللغوي السوري الراحل يوسف الصيداوي بأن استعير عبارته الشهيرة: "قل ولا تقل". فهي أفضل شعار يمكن أن يلخص وضع الإعلام في الشرق والغرب على حد سواء. لكن أتمنى أن يتمكن عصر العولمة الإعلامية من تحرير الإعلام العالمي من ربقة السياسة والإيديولوجيا والاقتصاد وجعله حراً حقاً!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.فيصل القاسم

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة