الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قصة الإمام شمس الدين مع تيمور

قلت : قد سنح في خلدي أن أذكر هنا قصة صدرت من سيدنا الإمام الهمام شمس الدين قاضي القضاة أبي إسحاق إبراهيم بن قاضي القضاة شمس الدين بن مفلح الراميني الأصل ثم الدمشقي ولد صاحب الفروع ، وذلك أن تيمور كوركان ويقال له ( تيمور لنك ) لما فعل بالشام وأهلها ما فعل ، وعم بظلمه البر والبحر والسهل والجبل ، وكان قد طلب الصلح ، واجتمع به أئمة الإسلام وأظهر الحلم والصفح ، وكان عبد الجبار المعتزلي إمامه .

وهو الذي يملك زمامه ، يناظر علماء السنة بحضرة تيمور . ولا يمكنهم الجواب عن أكثر الأمور . فطلب من العلماء كتابة سؤال يتوصل به إلى الإنكار والضلال وهو أن يكتبوا ويختموا الكتاب ، بأن فضيلة النسب مقدمة على فضيلة العلم بلا ارتياب ، فتقاعسوا وأحجموا ، وعلى الجواب وجموا ، وعلم كل منهم أنه قد ابتلي ، فابتدر بالجواب الإمام شمس الدين الحنبلي فقال : درجة العلم أعلى من درجة النسب ، ومرتبتها عند الخالق والمخلوق أسنى الرتب ، والهجين الفاضل يقدم على الهجان الجاهل ، والدليل في هذا جلي .

وهو إجماع الصحابة على تقديم أبي بكر على علي ، وقد أجمعوا أن أبا بكر أعلمهم . وأثبتهم قدما في الإسلام وأقدمهم ، وإثبات هذه الدلالة ، من قول صاحب الرسالة { لا تجتمع أمتي على ضلالة } .

ثم أخذ القاضي [ ص: 233 ] شمس الدين في نزع ثيابه ، مصيخا لتيمور وما يصدر من جوابه ، ففكك أزراره ، وقال لنفسه إنما أنت إعارة . وكأس الموت لا بد من شربها ، فسواء ما بين بعدها وقربها ، والموت على الشهادة ، من أفضل العبادة ، وأفضل أحوالها لمن علم أنه إلى الله صائر ، كلمة حق عند سلطان جائر .

فقال له تيمور ما حملك على نزع ثيابك ؟ فقال له الشيخ بذلا لنفسي في سبيل الله صابرا لعقابك . فقال له قد وسعك حلمنا . فلا تعدم سلمنا .

فقال له أيها السلطان الجليل : حيث مننت بالحلم على هذا العبد الذليل ، فليكن الأمان مصحوبا بالتفضيل ، من صولة بعض العسكر الذي عدة ملله تفوق على أمم بني إسرائيل . ففيهم من ابتدعوا بدعا ، وقطعوا في مذاهبهم قطعا ، ومزقوا دينهم وكانوا شيعا .

ولا شك أن مجالس حضرتك تنقل ، وتخص في سريانها وتشمل ، وإذا ثبت هذا الجواب عني ، ووعاه أحد عن سني خصوصا من ادعى موالاة علي ، ويسمى في رفضه من والى أبا بكر بالناصبي ، وتحقق مني يقيني ، وأنه لا ناصر لي يقيني ، فإنه يقتلني جهارا ، ويريق دمي نهارا . وإذا كان كذلك فأنا أستعد لهذه السعادة ، وأختم أحكام القضاء بالشهادة .

فقال له تيمور : لله درك ما أفصحك ، وأنصرك لمقالتك ، وأنصحك ، فأمر بجماعة يشيعونه ، ويحرسونه من أعدائه في ذهابه لداره ويحفظونه فأحاطت به الجند إحاطة الهالة بالقمر ، وصاروا حوله كالسور حول المسور . ومع هذا فقد وكزه بعض الطغام ، من تلك العساكر الرعاع الغشام ، فكان ذلك سببا لحصول السعادة .

فجرى ما جرى وختم الله عمله بالشهادة ، وقد أشار إلى هذه القصة ابن عرب شاه في تاريخ تيمور ، والشيخ العليمي في المقصد الأحمد ، تراجم أصحاب الإمام أحمد . رضوان الله عليهم أجمعين .

ولما وعظ الإمام الحافظ ابن الجوزي الخليفة ( المستضيء بأمر الله ) سنة أربع وسبعين وخمسمائة قال له رحمه الله تعالى : لو أني مثلت بين يدي السدة الشريفة لقلت يا أمير المؤمنين : كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك أنه لم يجعل أحدا فوقك ، فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك . فتصدق بصدقات وأطلق محبوسين .

[ ص: 234 ] ووعظ أيضا في السنة المذكورة والخليفة حاضر فبالغ في وعظ أمير المؤمنين فما حكاه له أن الرشيد قال لشيبان عظني ، فقال يا أمير المؤمنين لأن تصحب من يخوفك حتى تدرك الأمن ، خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى تدرك الخوف ، قال فسر لي هذا ، قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول لك أنتم أهل بيت مغفور لكم ، وأنتم قرابة رسول الله نبيكم ، فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله . فقلت له في كلامي : يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك ، وإن سكت خفت عليك ، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك . انتهى .

وفي ( مثير العزم الساكن ، إلى أشرف الأماكن ) لابن الجوزي ، أنه لما حج هارون الرشيد وعظه عبد الله بن عبد العزيز العمري ، قال سعيد بن سليمان : كنت بمكة في زقاق الشطوي وإلى جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري وقد حج هارون الرشيد ، فقال له إنسان يا عبد الله هو ذا أمير المؤمنين يسعى ، قد أخلي له المسعى ، قال العمري للرجل لا جزاك الله عني خيرا كلفتني أمرا كنت عنه غنيا .

ثم تعلق نعليه وقام فتبعته فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا ، فصاح به يا هارون ، فلما نظر إليه قال لبيك يا عم ، قال ارق الصفا ، فلما رقيه قال ارم بطرفك إلى البيت ، قال قد فعلت ، قال كم هم ؟ قال ومن يحصيهم ؟ قال فكم في الناس مثلهم ؟ قال خلق كثير لا يحصيهم إلا الله .

قال اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه وأنت وحدك مسئول عن الجميع ، فانظر كيف تكون . قال فبكى هارون وجلس ، وجعلوا يعطونه منديلا منديلا للدموع .

قال العمري : وأخرى أقولها ، قال قل يا عم ، قال والله إن الرجل ليسرع في ماله فيستحق الحجر عليه ، فكيف بمن أسرع في أموال المسلمين ، ثم مضى وهارون يبكي .

وذكر في الكتاب المذكور أن هارون الرشيد كان يقول : والله إني لأحب الحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ثم يسمعني ما أكره ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية